عاجلا أم آجلا ستقر ​الحكومة​ مشروع ​الموازنة​ وتحوله الى ​مجلس النواب​ الذي سيقره بدوره. صحيح ان الضجيج ارتفع كثيرا اثناء مناقشات مجلس الوزارء للمشروع ، وصحيح ان الصخب سيرتفع أكثر في المجلس النيابي ، الا ان المقدر سيحصل ، وسيخرج اللبنانيون مرة اخرى بخيبة كبيرة من حكامهم ، لانهم عجزوا او امتنعوا عن وضع سياسة مالية اصلاحية ، تجعل من الموازنة مشروعا للتطوير الاقتصادي ، وليس كما الحال الآن ، جردة حسابية ، للواردات والنفقات.

في النقاش الحكومي لمشروع الموازنة غابت مرة أخرى المقاربة العلمية للمسألة ، وبدا على وقع تحركات النقابات والمؤسسات والمصارف وغيرها ، أن كلا يغني على مصالحه ، والجميع يريد ان يحفظ حصته من الدولارات المنهوشة من مالية الدولة .

ما ليس مفهوما وليس مقبولا ان يظهّر هكذا نزاع على مالية الدولة فيدرالية سياسية – طائفية ، فيبدو ان كل قطاع اقتصادي يحظى برعاية سياسية ، وحماية من بعض اهل الحكم ، ليصير الشأن المالي قضية مصير ووجود احزاب وطوائف.

ظهر في النقاش ان فريقا سياسيا معينا يرفض اي تخفيض في مخصصات الاجهزة العسكرية والامنية ، وفريق آخر يأبى المس بارباح المصارف ، وفريق ثالث يذرف الدموع على اجور العاملين في القطاع العام ، بذريعة انهم فقراء.

في النقاش العلمي لو حصل سيتبين ان النفقات العسكرية يمكن ان تقلص بنسبة الثلث من دون المس بفعالية القوى والاجهزة وانتاجيتها ، ولن يسقط الامن في لبنان ، لان التقليص سيشمل نفقات اضافية وعطايا وتقديمات خاصة . وفي القطاع المصرفي يمكن اجبار البنوك على التنازل عن نصف ارباحها السنوية ، ولن يموت اصحابها جوعا ، ولن يفلسوا ، ولن تهرب الودائع من لبنان ، كما يروج اصحاب حملة التهويل المدفوعة الاجر. وفي القطاع العام ليس كل الموظفين من ذوي الدخل المحدود ، اذا تجد موظفي دولة يتقاضون راتبا شهريا زائد اضافات يناهز الثلاثين الف دولار.

تم اقتراح تخفيض اجور القطاع العام بسنبة 15 في المئة لمدة ثلاث سنوات ، فهل يصح وضع الجميع في سلة واحدة ، واقتطاع النسبة نفسها منهم ، في وقت تتفاوت الرواتب بين موظفي القطاع العام ، وتتراوح بين مليون ونصف مليون ليرة شهريا للبعض ، و45 مليون ليرة للبعض الآخر. أم ان الاصح هو ازالة كل الرواتب المتضخمة بضربة واحدة ، وتحقيق المساواة بين الجميع.

المصارف تحقق ارباحا صافية تزيد عن ملياري دولار سنويا ، وهي تجنيها في معظمها من خزائن الدولة ، لان القطاع المصرفي ونتيجة للازمة الاقتصادية وتعطل دورة الانتاج ، والاهم من كل ذلك نتيجة لسياسات متعمدة ، اصبح كمرابي الضيعة ايام زمان ينتظر وقوع احد الفقراء في مصيبة ، كأن يمرض ابنه مثلا ، ليقدم خدماته باقراضه المال بفائدة عالية ، فينقذ الفقير ابنه من الموت مقابل ان يبقى الاثنان مدينين للمرابي مدى الحياة.

مالية الدولة في عجز دائم منذ اتفاق الطائف ، والحل الذي اجترحته الطبقة الحاكمة منذ ذلك الحين ، هو الاقتراض والمزيد من الاقتراض ، ومع مرور السنوات نشأت حاجة اضافية للاقتراض ، اي لدفع الفوائد للمرابين ، وقد جرى تلطيف التعبير بالقول "خدمة الدين العام".

لماذا لا تستدين الدولة من غير المصارف؟ لماذا لا تفتح سوق سندات الخزينة للمواطنين؟ وهل ثمة لعبة خفية تقوم على ان تسحب المصارف السيولة من الناس مقابل فوائد قليلة لتسلفها هي للدولة مقابل فوائد باهظة؟

السؤال الاهم ، كم هي النسبة التي تخصصها المصارف من رساميلها لاقراض القطاع الخاص من اجل تمويل مشاريع انتاجية ، تنشط وتطلق الدورة الاقتصادية وتخلق فرص عمل ؟

قد يقال ان الوضع في لبنان لا يسمح بالاستثمار ، لذا تلجأ المصارف لتحقيق الارباح الفاحشة الى تقديم قروض صغيرة فقط للمواطنين التي يطلبونها من أجل شراء سيارة او اجراء عملية تجميل او شراء اثاث جديد ... وهذا كله انفاق استهلاكي غير منتج بالاجمال، عدا عن انه استثمار من دون مخاطر ، فراتب المقترض محجوز سلفا .

الاستثناء الوحيد هو في القروض السكنية ، وهي اذا سارت على المسار الصحيح ، تساهم بفعالية في الدورة الاقتصادية ، ولكن هنا ايضا يسود الالتباس ، لان المصارف لا تقرض الا بضمان مؤسسة الاسكان عبر مصرف لبنان ، وقد ظهر في الازمة الاخيرة فضيحة منح القروض الى غير مستحقيها مثل تجار البناء والمقاولين ،فكانت النتيجة حرمان ذوي الدخل المحدود منها ، وتضخم ثروات الشركات العقارية التي وقعت سريعا في شر اعمالها واعمال الدولة ، فتكدست الشقق السكنية الخالية ، في ظل عجز الناس عن الشراء . وتقدر الاحصائيات وجود 100 الف شقة فارغة تبلغ قيمتها 25 مليار دولار ، خارج الدورة الاقتصادية.

الطبقة السياسية استنفرت لحماية المصارف من شر تخفيض الفوائد او زيادة الضريبة على الارباح بذريعة ان الودائع قد تهرب الى الخارج .. والسؤال الذي يطرح الى اين ستهرب ؟ وهل من دولة في العالم ستقدم للمرابين فوائد اعلى من لبنان ، حتى بعد تخفيضها بثلاث نقاط مئوية؟ .

هو مجرد تهويل اعلامي كارثي ماساوي يشارك فيه كتاب وخبراء واعلاميون اما عن جهل او عن تعمد خبيث.

وبالعودة الى القطاع العام ، فقد ظهر وكأن الدولة هي عبارة عن محميات طائفية مذهبية ، وعندما خرج احد المسؤولين ليفضح تضخم بعض الرواتب في ادارة معينة ، خرج مسؤول آخر ليفضح الشيء نفسه في ادارات أخرى . اشتعلت حرب فضح المحسوبيات التي يحظى بها كل زعيم وحزب داخل القطاع العام .

الانكى من ذلك ان يرفع موظفو مصرف لبنان مثلا ، لواء الثورة ، وهم من اكثر موظفي القطاع العام استفادة من مال الدولة ، ولا نعترض على هذا الواقع بل ندعو الى تعميمه ، اي ان يكون لاي موظف دخل يكفيه للعيش بكرامة وبحبوحة ، ولكن ان يتحول اضراب موظفي المركزي المعلب والموجه الى وسيلة من وسائل الضغط داخل تركيبة الحكم من اجل الحفاظ على قطعة جبن كبيرة ، فهو العار بعينه .

ثلث الموازنة هو لخدمة الدين العام ، والثلث الثاني للرواتب ، والثلث الثالث لنفقات الدولة الاخرى . وتقليص العجز الدائم والمزمن في مالية الدولة يجب ان يتحقق في المجالات الثلاث بنسب تتلائم مع كل قطاع .

بالتأكيد يمكن تصغير القطاع العام المتضخم ، اذا توفرت الارادة السياسية ، ولكن زعماء الطوائف يتعاملون مع القطاع العام كمنشأة خاصة يحشرون فيها ازلامهم برواتب خرافية ، وغالبا من دون عمل ، على حساب فئة كبيرة من الموظفين الشرفاء والفقراء. وبالتأكيد يمكن تخفيض خدمة الدين العام جذريا بتخفيض الفوائد ولكن المشكلة ان حكام البلد هم اما اصحاب مصارف او شركاء فيها . وبالتأكيد تستطيع الدولة سد مزاريب الهدر في الثلث الاخير من نفقاتها شرط ان ترفع يد السياسيين والاحزاب عن اثداء البقرة الحلوب.

ذلك ممكن بشرط واحد ، هو ثورة اجتماعية حقيقية خارج القيد الطائفي.