هزّ ال​إضراب​ المفتوح الذي أعلنه موظفو ​مصرف لبنان​ منذ يوم الجمعة الماضي إحتجاجاً على توجه ​الحكومة​ للمس برواتبهم ومخصصاتهم، الأسواق المحلية، وأدى إلى إضطراب بين الناس خوفاّ من إستمرار الإضراب لفترة طويلة وتأثيره على العمليات المصرفية في البلاد وعلى السيولة النقدية بالليرة اللبنانية.

وإعتبر الكثير من الخبراء والمحللين أن التوجه للمس بهذه المؤسسة (مصرف لبنان) وزجها "بالصراعات السياسية" و"الهرطقات القانونية"، سيكون له تبعات سلبية كبيرة على اقتصادنا الحر وعلى استقرارنا النقدي والمالي، خاصة ان المصرف المركزي مؤسسة مستقلة كليا إداريا وماليا عن السلطة السياسية، ومهمّته حماية الاستقرار النقدي ومكافحة التضخم.

وفي هذا السياق عبّرت مراجع سياسية وحكومية عن مخاوفها من تداعيات إضراب موظفي مصرف لبنان المفتوح، وكشفت مصادر مطّلعة عن اتصالات مكثفة تجريها بعض المراجع لوقف هذا الإضراب وتلافي تردداته السلبية على مستوى حركة الأموال والمعاملات المصرفية في لبنان .

فهل سيستمر الإضراب لفترة طويلة ؟ وما هي إنعكاساته على العمليات المصرفية وحركة الأموال والسيولة بالليرة اللبنانية ومصالح المواطنين؟

يؤكد كبير الإقتصاديين ومدير وحدة الدراسات في بنك "بيبلوس" نسيب غبريل في حديث خاص "الإقتصاد"، أن "هناك تاثيرات مباشرة على عمليات المصارف في أكثر من مكان، فالتحويلات بين المصارف اللبنانية تتأثر بشكل مباشر، وكذلك مقاصة الشيكات حيث لا يمكن صرف أي شيك أو وضع شيك في الحسابات الخاصة للمواطنين، كما يؤثر أيضا على التحويل من الليرة إلى العملات الأجنبية والعكس".

وتابع غبريل "في حال إستمرار الإضراب أيضا فإن الإحصاءات الخاصة بالقطاع المصرفي والمالي والتي يصدرها مصرف لبنان، ستتوقف او تتأخر، وعلى رأسها أرقام ميزان المدفوعات التي تصدر عن المصرف شهريا، وكذلك الميزانية الخاصة بالمصرف المركزي والتي يصدرها كل أسبوعين والتي تكمن اهميتها بأنها تتضمن أرقام دقيقة لموجودات مصرف لبنان بالعملة الأجنبية".

أما الموضوع الأهم فهو إمكانية تأثر السيولة بالليرة اللبنانية في السوق في حال إستمرار الإضراب لوقت طويل.

ولفت إلى أن "تأثير إضراب موظفي مصرف لبنان ظهر واضحا وجلياً على الإقتصاد وعلى السوق منذ اللحظة الأولى، وهذا يثبت الدور الحيوي الذي يلعبه المصرف المركزي في الإقتصاد الوطني، في حين ان إضراب مؤسسات عامة اخرى في الدولة قد لا يؤثر كثيرا على السوق وعلى الإقتصاد الوطني كما حصل بسبب إضراب موظفي المصرف المركزي".

أما فيما يخص الامور والعمليات المصرفية التي لا تتأثر بهذا الإضراب فهي "التحويلات من الخارج إلى لبنان والعكس، إضافة إلى عمليات التمويل التجاري، والتي قدّ تتأثر فقط في حال كان هناك عملية ضرورية بين مصرفين محليين".

وفي سؤالنا عما إذا كان المس برواتب وأجور موظفي المصرف هو تدخل بإستقلالية مصرف لبنان كمؤسسة مستقلة، وعما إذا كان سينعكس ذلك على دوره الحيوي، قال غبريل "مصرف لبنان يموّل عملياته ورواتب موظفيه تلقائيا، فهذه العمليات والرواتب لا تدخل ضمن الموازنة العامة للدولة، وبالتالي لا يشارك في النفقات. فحسب قانون النقد والتسليف يحول مصرف لبنان سنويا 80% من أرباحه لخزينة الدولة، ويستخدم الـ 20% المتبقية لدفع رواتب وتعويضات الموظفين، ومن هذا المنطلق فإن مصرف لبنان يساهم في مداخيل خزينة الدولة، ولا يشكل أي عبء على نفقاتها".

وتابع "من جهة اخرى لا شك أنه يجب الحفاظ على إستقلالية السياسة النقدية عن السياسة الإقتصادية والمالية. ويجب الإشارة إلى ان مصرف لبنان في السنوات الماضية عمل على تخفيض نفقاته من خلال التقاعد المبكّر، وخفض عدد الموظفين إلى 850 موظف تقريبا، كما أن التغطية الصحية لموظفي المصرف هي فقط 70%، في حين ان موظفي القطاع العام في إدارات أخرى يحصلون على تغطية صحية بنسبة أكبر. كما يغطي مصرف لبنان فقط 30% من المدارس والتعليم".

واكمل غبريل "في سياق منفصل، يجب الإشارة أيضا إلى ان السياسة النقدية للبلاد يتم وضعها من قبل الدولة، ومصرف لبنان مهمته تطبيق هذه السياسة، فالمجلس المركزي الذي يتخذ كافة القرارات في المصرف المركزي يحتوي على أعضاء وممثلين للوزارات وللحكومة، فهناك ممثل لوزارة المالية بشخص مديرها العام، إضافة إلى المديرة العامة لوزارة الإقتصاد، وممثل رسمي للحكومة. وبالتالي كل القرارات التي يتم إتخاذها تتم بعلم الحكومة والسلطة".

وعما إذا كان ما يحصل هو محاولة لزجّ مصرف لبنان في الصراعات السياسية الحاصلة، قال غبريل "لبنان يتعرض من أوائل الصيف الماضي ومنذ إنتهاء الإنتخابات النيابية، لحملة تخويف وترهيب عن قرب إنهيار الليرة اللبنانية، وإتجاه المالية العامة إلى سيناريو اليونان، أو لأزمة نقدية شبيهة بالازمة التركية، عدى عن الرسائل النصية والصوتية عبر وسائل التواصل الإجتماعي، وتفريخ الخبراء الإقتصاديين والإستراتيجيين الذي وصلوا لمرحلة تحديد موعد الإنهيار ! ولكن معالم هذه الحملة بدأت تظهر، وهناك من يرى ان هذه الحملة تهدف للضغط على ​المصارف التجارية​ وعلى مصرف لبنان للإكتتاب بسندات خزينة بفوائد أقل بكثير من فوائد السوق، والهروب من تنفيذ الإصلاحات البنيوية والحقيقية المطلوبة. وهذا الامر مشابه لما حصل في باريس 2، حيث إكتتبت المصارف التجارية بسندات خزينة قيمتها 3.6 مليار دولار بفوائد 0% لمدة سنتين، كما ان مصرف لبنان قام بعملية هندسة نقدية مع وزارة المالية بقيمة 4.1 مليار دولار، مما أدى إلى تخفيض كلفة خدمة الدين العام وحجمه، ودفع المجتمع الدولي حينها لتحويل 5 مليارات دولار للبنان من أجل المساعدة، ولكن بالمقابل السلطات اللبنانية لم تلتزم بالإصلاحات التي وضعها "باريس 2"، وهذا ما اوصلنا للوضع الإقتصادي الحالي. لذلك فإن هذا السيناريو لا يجب تكراره، من أجل مصلحة الإقتصاد الوطني بالدرجة الاولى، وليس لمصلحة القطاع المصرفي".

بدوره قال الخبير الإقتصادي والمالي د. غازي وزني في حديث لـ "الإقتصاد" أن "الإضراب المفتوح لموظفي مصرف لبنان لا يجب أن يستمر لأن ذلك ينعكس سلبا على الإقتصاد ويشل العمليات المالية بين المصارف ويخلق أجواء عدم إطمئنان وعدم إستقرار".

ولفت الى ان هذا الاضراب حصل لسببين:

"السبب الأول هو رفض موظفي البنك المركزي للمس برواتبهم ومخصصاتهم، خصوصاً وان موظفي المركزي يتقاضون 16 شهراً، في حين ان الموازنة تحدد ضرورة ان يتقاضى جميع الموظفين 12 شهراً، وبالتالي فان هذا الأمر سيمس ليس فقط برواتبهم الشهرية بل أيضاً بمعاشات التقاعد".

أما السبب الثاني، بحسب وزني، فهي "ضرورة عدم المسّ باستقلالية المصرف المركزي، على الصعد كافة، فمصرف لبنان هو مؤسسة مستقلة بحسب قانون النقد والتسليف ماليا وإداريا، ومن المفترض إبعاد المركزي عن الصراعات والسجالات السياسية".

وتابع "علينا الحفاظ على إستقلاليته المصرف المركزي عن السلطة السياسية بشكل كامل وعدم إخضاعه لأي لسلطة أي جهة او وزارة، فلبنان يعتمد نظام إقتصادي حر، ولا نريد ان نكون إقتصاداً موجهاً او إشتراكياً".

وإعتبر وزني أيضا ان "للمصرف المركزي دور حيوي في الإقتصاد الوطني، والإضراب يجب أن يتوقف من أجل الحفاظ على هذا الدور، خاصة أن هذا الإضراب يخلق أجواء غير مطمئنة وغير مستقرة في البلد، ويشل نشاط المصارف التجارية والتحويلات والعمليات فيما بينها، ويوقف عمليات المقاصة (الشيكات)، كما يوقف عمليات ضخ السيولة بالليرة اللبنانية من قبل مصرف لبنان".