أكثر من رسالة تحذير وجهها ​البنك الدولي​ أخيرا الى ​لبنان​، يحثّ فيها ​الحكومة اللبنانية​ على ضرورة إجراء الإصلاحات المطلوبة لوقف الهدر و​الفساد​ في مؤسسات الدولة، وفي مقدمة هذه الإصلاحات إصلاح ملف ​الكهرباء​ الذي يكبّد خزينة الدولة سنويا أكثر من ملياري دولار.

ومنذ توقيع اتفاق الطائف وتشكيل أول حكومة لبنانية بعد انتهاء الحرب في عام 1992، أطلقت الوعود الفضفاضة بحلّ أزمة الكهرباء، لكنه في كل عام وبدل إيجاد الحلول المناسبة لأبرز أزمة اقتصادية تواجهها البلاد، تتكبد خزينة الدولة المزيد من الأعباء المالية الناتجة عن خسائر لبنان من الكهرباء، إلى أن وصلت كلفة تأمين الكهرباء العام الماضي وحده إلى 1.8 مليار دولار أميركي.

وبما ان ​الوضع الاقتصادي​ المالي هو الثغرة اليوم، لا بل الفجوة الكبرى في لبنان ومصدر التهديد الأول في هذه المرحلة، وأمام إصرار البنك الدولي والدول المانحة التي خصصت للبنان مبلغ 11 مليار دولار خلال مؤتمر "سيدر" لإصلاح بنيته التحتية، سارعت الحكومة اللبنانية عبر وزارة الطاقة بإعداد خطة طويلة الأمد لحل أزمة الكهرباء تهدف الى إنشاء معامل مؤقتة ودائمة والعمل على خفض معدلات الهدر تدريجيا خلال السنوات المقبلة.

فهل ستنجح الحكومة الحالية فيما فشلت به سابقاتها على مرّ عقود ؟ ومن يضمن للبنانيين الجدية والإرادة الحقيقية في وقف الهدر والفساد والقيام بالإصلاحات ؟ ماذا عن باقي الملفات التي تنتظر الحل أيضا ؟ هل ستبدأ مشاريع "سيدر" قريبا ؟ وهل سنشهد فعلا على صيفٍ مزدهر شبيه بصيف 2010 ؟

أسئلة كثيرة أجاب عنها كبير الإقتصاديين ومدير وحدة الدراسات في بنك "بيبلوس" نسيب غبريل، في هذه المقابلة مع "الإقتصاد".

هل ستنجح الحكومة الحالية فيما فشلت به سابقاتها على مرّ عقود ؟ ومن يضمن للبنانيين الجدية والإرادة الحقيقية في وقف الهدر والفساد والقيام بالإصلاحات ؟

لا شك أن الحكومة الحالية اليوم تحت المجهر، خاصة بعد تأخير أستمر لـ 8 أشهر في محاولة لتشكيلها، بالإضافة إلى العرقلة الممنهجة والعقبات التي رأيناها، وكل هذا أدى إلى فرص ضائعة كثيرة على ​الإقتصاد اللبناني​.

وكان هناك توقعات من قبل ​القطاع الخاص​ المحلي - قبل ​المجتمع الدولي​ والدول المانحة - بأن الحكومة ستتشكل بسرعة بعد الإنتخابات النيابية، وستبدا بجدية في بعض الإصلاحات من أجل وقف مزاريب الهدر والفساد، خاصة ان لبنان تعهد بالكثير من الأمور خلال مؤتمر "سيدر"، إلا ان هذه التوقعات لم تحصل كما ذكرنا.

وبرأي أن القطاع الخاص والمواطن اللبناني و​القطاع المصرفي​، ومن بعدهم وكالات التصنيف و​صندوق النقد​ والبنك الدولي والدول المانحة التي شاركت في "سيدر"، و​المصارف​ الإستثمارية العالمية وصناديق الإستثمار التي تحمل سندات اليوروبوند اللبنانيية، لا تنتظر فقط العمل على ملف الكهرباء، بل تنتظر الحدث الاهم والملف الأبرز، المتمثل بموازنة العام 2019، وكيف سيكون شكل هذه الموازنة التي ستعكس مدى جدية الحكومة ومكوناتها للسير بالإصلاح.

فملف الكهرباء هو جزء من الموازنة، ولا يمكن ان ننكر بأنه عبء على الإقتصاد وعلى القطاع الخاص وعلى الشركات المتوسطة والصغيرة والكبيرة، وعلى الأفراد وعلى الأسر، قبل أن تكون عبء على الخزينة وعلى ​الموازنة العامة​. لذلك فإن هذا الملف يحتاج إلى حل مستدام وليس حل مؤقت، لأننا منذ العام 2010 نسمع عن خطط للكهرباء، ومشاريع لتأمين الكهرباء 24/24، ولم يطبّق منها شيء، مما رفع الكلفة إقتصادية على الإقتصاد الوطني.

فالعمل على ملف الكهرباء اليوم يعكس مدى مصداقية السلطة التنفيذية على إيجاد حل له، واللجنة المكلفة دخلت في تفاصيل هذ الملف، وهناك أراء متعددة فيما يتعلق بالحلول، وهذا أمر جيّد وبنّاء ويساعد على إيجاد مشروع متكامل. ولكن في نفس الوقت التركيز فقط على ملف الكهرباء أمر غير كافي، لأن معضلة الموازنة العامة أكبر بكثير من ملف ​كهرباء لبنان​، وهذا الامر تثبته الأرقام. فعلى الرغم من ان تحويلات الخزينة إلى كهرباء لبنان في أو 11 شهر من 2018، إرتفعت بنسبة 38% مقارنة بالعام 2017 بسبب إرتفاع ​أسعار النفط​، إلا ان هذه التحويلات تشكل فقط 9.3% من النفقات العامة.

وإذا ما غصنا في الأرقام، نجد أنه بين العامين 2010 و 2017، إرتفعت تحويلات الخزينة إلى كهرباء لبنان بنسبة 11.5% فقط، في حين ان خدمة ​الدين العام​ إرتفعت بنسبة 26% في نفس الفترة، وكتلة الرواتب والاجور والمخصصات ومعاشات التقاعد في ​القطاع العام​ إرتفعت بنسبة 62% في الفترة المذكورة، ومعاشات التقاعد وحدها قفزت 84% في تلك الفترة.

من جهة اخرى في الأشهر التسعة الاولى من 2018، بلغت نفقات معاشات التقاعد ومخصصات نهاية الخدمة حوالي 1.6 مليار دولار، في حين او تحويلات الخزينة إلى كهرباء لبنان بلغت 1.2 مليار دولار في نفس الفترة. كل هذه الأرقام تثبت ان هناك تحدي أكبر بكثير من ملف الكهرباء، وللأسف لا يتم تسليط الضوء عليه بالشكل الكافي، وهو يتمثل بالنظام التقاعدي المتبع حاليا في لبنان الذي يحتاج إلى إصلاح فوري، دون أخذ حقوق أحد من المتقاعدين. فبإستطاعة الحكومة إتخاذ قرار سريع في هذا الموضوع، وفي جلسة واحدة لمجلس الوزراء، وإذا تم هذا الامر سيساعد كثيرا في عملية الإصلاح وسيعطي إشارات إيجابية إلى السوق.

ونفس الأمر بالنسبة لملف الكهرباء، فإذا تم تقديم مشروع متكامل لحل مستدام، وتم إعتماده وتطبيقه بمصداقية، سيعطي إشارات إيجابية للأسواق المحلية والخارجية.

واعتقد ان إصلاح ملف التقاعد في القطاع العام أسهل وأسرع من موضوع الكهرباء، فالقانون المعتمد اليوم غير مقبول وغير منطقي، حيث ان زوجة المتقاعد مثلا تحصل على الراتب التقاعدي بعد وفاة زوجها دون أي تخفيض، وهناك معاشات تقاعدية تستمر الدولة بدفعها لاكثر من 90 سنة دون أي تعديل او تخفيض عليها !!

ومن جهة ثانية يجب وقف رواتب النواب السابقين، فهؤلاء لا يمكن إعتبارهم متقاعدين، إضافة إلى تعديل القانون لوقف دفع المعاشات التقاعدية بعد وفاة المتقاعد. فهذه الإجراءات تعطي مصداقية، وتثبت نية الحكومة على الإصلاح الجدي.

من ناحية ثانية علينا العمل على وقف التوظيف في القطاع العام بأي شكل من الأشكال وتحت أي عذر من الاعذار، إضافة للعمل على تخفيض حجم القطاع العام، فهذا القطاع اليوم هو العبء الأساسي على الإقتصاد، والكلفة العالية للرواتب و​الأجور​ والمخصصات ومعاشات التقاعد تشكل اكثر من 40% من النفقات العامة للدولة. في حين أن خدمة الدين أقل من 30%، وتحويلات الخزينة لكهرباء لبنان تصل إلى 9.3%.

لا شك أن الكل أصبح يعلم مكامن الخلل والهدر والملفات التي تحتاج إلى إصلاح .. ولكن هل تعتقد ان ضغط المؤسسات الدولية والدول المانحة على لبنان سيؤدي إلى نتائج مغايرة هذه المرة ؟ وإلى إصلاح حقيقي ؟ خاصة أنه تم ربط الإصلاحات بالإفراج عن أموال "سيدر".

منذ تشكيل الحكومة وحتى الأن، لم نرى جدية بعد في العمل ولا أي قرارات حتى. ولا أعتقد أننا يجب أن نعتمد على الضغوط والتحذيرات الدولية للقيام بالإصلاح، فالضغوط الاهم والتحذيرات الاهم، هي التي يطلقها القطاع الخاص والقطاع المصرفي والتي تاتي من المواطن اللبناني، فهذه الضغوط هي التي يجب أن تدفع مكونات الحكومة والسلطة السياسية للسير في طريق الإصلاح.

فالإصلاح هو من مصلحتنا، ولا يجب أن ننتظر أي سبب أو أي دافع للبدء به. وحتى لو لم يكن هناك مؤتمر "سيدر"، فمن مصلحتنا تطبيق الإصلاح، والدخول في مرحلة تحجيم القطاع العام، وتحسين المناخ الإستثماري، وتطوير بيئة الاعمال، ورفع مستوى تنافسية إقتصادنا الوطني، وإعادة تأهيل البنى التحتية. فهذه الامور ملحة جدا، وبحاجة إلى إجراءات حقيقية منذ سنوات قبل مؤتمر "سيدر". فالإصلاح طلب محلي قبل أن يكون طلب خارجي ودولي.

واليوم الجميع بحالة ترقب عما سينتج عن موازنة 2019، وهل ستتضمن إجراءات إصلاحية تجميلية، او سيكون هناك إصلاح بالعمق؟! فالإصلاح التجميلي لن ينفع ولن يؤدي إلى أي نتائج.

الكل متفائل بموسم الصيف المقبل .. فهل سنشهد برأيك على صيفٍ مزدهر شبيه بصيف 2010 ؟

العامل الأساسي لأي قطاع سياحي في العالم هو الامن، ونحن لدينا امن ممسوك ومستتب بفضل القوى الأمنية والجيش اللبناني.

من جهة أخرى لا شك ان قرار رفع التحذير السعودي لرعاياهم من السفر إلى لبنان هو امر إيجابي، وكذلك إعلان ​الإمارات​ إستعدادها لرفع الحظر عن مواطنيها .. ولكن لا يجب أن يعتمد لبنان فقط على هذا الأمر لإعادة إستقطاب السائح الخليجي والعربي، وإعتباره إجراء يضمن عودة ​الخليجيين​ بالاعداد التي تعودنا عليها في 2008 و 2009 و 2010.

فالسياح الخليجيين خلال الفترة الماضية التي إنقطعوا فيها عن لبنان، وجدوا بدائل عن السوق اللبناني، حيث نرى عشرات آلاف السعوديين في ​تركيا​ و​ماليزيا​ وغيرها من البلدان الاخرى. لذلك، انا أعتقد ان ​السعودية​ قامت بواجبها في هذا الموضوع، والان حان دورنا للعمل على إعادة إستقطاب جيل الشباب الجديد من السعودية والإمارات الذي لا يعلم شيء عن لبنان، وليس لديه الرابط مع لبنان كالجيل الخليجي السابق.

ولكن رغم ذلك انا متفائل بصيف واعد في عام 2019، ولكن لا اتوقع ان نرى أعداد خليجيين مشابهة لما كانت عليه الاعداد بين 2008 و 2010، فنحن بحاجة لحملة تسويقة من اجل إعادة وضع لبنان مجددا على الخريطة السياحية للمغترب السعودي والخليجي بشكل عام.