النقاش في ما هو الحل الامثل لازمة النفايات في ​لبنان​ شائك ومعقد ، وخصوصا في الجانب العلمي والتقني ، فالخيارات التكنولوجية متعددة ، ولكل خيار مؤيدوه ومعارضوه ، ولا تجد طريقة واحدة معتمدة في كل دول العالم المتحضرة ، وانما تختلف الطرق حسب ظروف كل بلد.

السجال في لبنان يدور الآن حول صوابية اعتماد خيار التفكك الحراري أو الحرق ، مع اعلان ​بلدية بيروت​ نيتها بناء معمل لهذا الغرض في منطقة الكرنتينا ، للتخلص من نفايات العاصمة وضواحيها . ولكن، وكما هي العادة في هذا البلد ، انحرف النقاش بسرعة من نقاش تقني علمي ، الى سجال سياسي – طائفي – مصلحي.

النائبة بولا يعقوبيان جاهرت منذ البدء برفضها لخيار المحرقة ، وقدمت معطياتها وادلتها ، وردت بلدية بيروت بمعطيات وأدلة مضادة . وقد شهدنا مواجهة تلفزيونية ، بين الطرفين ، انتهت الى لا شيء ، سوى اصرار كل طرف على موقفه ، وعلى وعد بمناظرة أخرى.

لا نناقش هنا المعطيات العلمية ، وهل خيار المحرقة أصح من المكبات الحالية ، وخصوصا مكبي برج حمود وكوستا برافو المسميين زورا مطمرين . فتحت ذريعة "العلم " و"صحة المواطن" ، برزت اتهامات سياسية – طائفية – مصلحية ينبغي الاضاءة عليها .

هجوم اعلامي

في سلسلة اطلالات اعلامية أطلقت يعقوبيان مواقف حادة ابتعدت عن المناقشة التقنية البيئية لتنتقل الى السياسة مباشرة . وفي ملخص لهذه الاطلالات قالت يعقوبيان :  أن الهدف من محرقة بيروت هو لجني الارباح الطائلة كما في ​الكهرباء​ على حساب صحة المواطن ، وان تلزيم بناء المعمل تم بمنطق الصفقات وليس عن طريق ال​مناقصة​ ، وقد جرى "منح الصفقة" الى شركة بوتك لانها مسيحية بعد استبعاد شركة vinci  الفرنسية ، والذريعة ان المحرقة ستقام على ارض مسيحية وان ​التلوث​ البيئي سيطال حصرا المناطق المسيحية ، بما يرقى الى "ابادة مسيحية " ، لذا تم اللجوء الى الشريك المسيحي في ​الفساد​ وهو شركة بوتك ، بوصفها احد اكبر ​المقاولين​ في ملف النفايات مع  Ramco، جهاد العرب، وميشال ابي نادر.

واشارت يعقوبيان الى انه منذ البداية تم استبعاد شركتين من اصل اربع ، وبقيت شركتان ، ليتم اقصاء واحدة ولتبقى شركة بوتك وحدها.. كما ذكرت ان شركة انطوان ازعور أقصيت ايضا.

وقد استعانت يعقوبيان بصور ​فيديو​ لداخون ينفث الدخان الاسود بكثافة هائلة للتدليل على حجم التلوث المفترض ان ينتج عن معمل التفكك الحراري بعد تشغيله.

ولاحقا اضافت يعقوبيان اتهامات جديدة بالفساد لشركة بوتك (للصيانة والتشغيل ) BUS .

وقائع تقنية وادارية

رد بلدية بيروت لم يتأخر فاوضحت بداية أن ​الصور​ المعروضة ليست لمحرقة نفايات في اي بلد في العالم ، واظهرت البلدية صورا لمحارق موجودة في قلب المناطق السكنية والمعالم السياحية في عدد من ​الدول الاوروبية​ مثل ​فرنسا​ و​النمسا​ والدانمارك.

كما عرضت البلدية معطيات اضافية عن ​آلية​ عمل المعمل مستقبليا ، لجهة اعتماد الفرز من المصدر اولا ، وثم عملية فرز ثانية داخل المعمل ، لنصل الى عملية الحرق المدروسة علميا والمجربة عالميا.

أما لجهة تلزيم المعمل فأكدت البلدية وجود اربعة ائتلافات مؤهلة للمشاركة في المناقصة وهي :

ــــ ائتلاف شركة vinci الفرنسية وشركة man اللبنانية (يملكها ميشال أبي نادر).

ــــ ائتلاف doosan الكورية وramco اللبنانية (يملكها محمد عماش).

ــــ ائتلاف sueze and cenem الفرنسية مع «الجهاد للتجارة والمقاولات» (يملكها جهاد العرب ).

ـ ائتلاف hitachi اليابانية مع butec اللبنانية (يملكها زياد يونس) وbatco  اللبنانية (يملكها طوني أزعور).

والاهم من كل ذلك ، تأكيد بلدية بيروت ان المناقصة لم تحصل ، ولم يوضع دفتر الشروط حتى.

وقائع عملية

رد شركة بوتك كان قويا لدحض الاتهامات التي اطلقتها يعقوبيان وخصوصا في ما يتعلق بتلزيمها بناء المعمل ، فلا المناقصة حصلت ، ولا دفتر الشروط وضع ، كما أن الحديث عن صفقة خفية فيتناقض مع كل تاريخ الشركة . وفي ما يلي ابرز ما فيه من محطات :

-لم تلتزم بوتك اي مشروع من مجلس الانماء والاعمار واي مؤسسة عامة منذ آخر حكومة للرئيس سليم الحص ( 1998 ) ، اي قبل عشرين سنة.

-شاركت بوتك في السنوات العشر الاخير بالكثير من المناقصات لمشاريع كبيرة ، وقد فازت بثلاث منها تقدر قيمتها بمليار دولار ، ولكن هذه المناقصات اما الغيت ، او منحت مشاريعها لشركات أخرى . فكيف يصح القول انها شريكة في الفساد.

-الاستثناء الوحيد بالمشاريع نالته شركةbus  المملوكة من مجموعة بوتك القابضة ، في مشروع مقدمي الخدمات ، ووفقا لمؤسسة ​كهرباء لبنان​ ، فقد حققت الشركة نجاحا باهرا في زيادة واردات الخزينة وتقليص الهدر وتحسين الخدمات في قطاع توزيع الكهرباء.

-بالنسبة للنفايات بنت شركة بوتك قبل نصف قرن (1970 )  معملا للقمامة (فرز وتدوير، تخمير عضوي، وحرق للعوادم)، بطاقة 700 طن في اليوم، وكان الأول من نوعه في منطقة ​الشرق الأوسط​، وأحدث ما كان متوافراً في تلك الحقبة.وكان صديقا للبيئة.

-بالنسبة للمشروع الحالي ، فهو لايزال في طور الاعداد في بلدية بيروت ولم يطرح للمنافسة بعد ، ولا تزال الائتلافات الاربعة مصنفة ومؤهلة للمشاركة في المناقصة عندما تحصل ، كما ان شريكة بوتك  في الائتلاف مع ​شركة هيتاشي​ السويسرية ، اي شركة Batco لصاحبها انطوان ازعور، لا تزال موجودة .

-تؤكد بوتك انها ليست صاحبة القرار في اعتماد المحارق كخيار ، بل هو من صلاحيات السلطات العامة ، فاذا قررت هذه السلطات اجراء مناقصة لبناء هكذا معمل تدرس المشاركة فيها ، فاذا شاركات تتعهد بامرين : الاول ، عدم الانخراط في اي صفقة ، بل بمناقصة شفافة ، والثاني ، الالتزام الدقيق بدفتر الشروط ، اذا رسى المشروع عليها ، سواء وجدت ​رقابة​ الدولة ، أم لا .

-بخصوص BUS  وجهت الشركة دعوة مفتوحة الى الجميع لزيارة مكاتبها  والاطلاع على اوراقها كاملة ، من مستندات وفواتير وكشوفات ... لدحض الفساد المزعوم.

فساد أم حرمان ؟

بمراجعة الوقائع تتبين صحة ما أدلت به الشركة ، فمن المناقصات التي فازت بها بوتك وسحبت منها ، مناقصة بناء معمل دير عمار 2 عام 2012  ، ومناقصة ادارة النفايات في احدى المناطق اللبنانية عام 2015 ، وتشمل الكنس والفرز والمعالجة وانتاج الطاقة من النفايات RDF ، فكيف يصح قول يعقوبيان ان بوتك هي من كبار المقاولين الذين يتولون ملف النفايات ( والكهرباء ) أو المشاركين في "الصفقات ".

العكس هو الصحيح ، بالنسبة لمعمل دير عمار 2 تم تلزيمه لشركة اخرى لم تنجح في بنائه حتى اليوم ، وقصته العابقة بالفساد باتت معروفة للجميع ، وتحديدا ليعقوبيان التي استضافت ذات يوم رئيس مجلس ادارة بوتك في برنامجها التلفزوني (آنذاك ) ، بوصفه ممثلا للشركة ضحية الفساد . اما بالنسبة لمناقصة النفايات (2015) فقد الغيت بذريعة الاسعار المرتفعة ، كما اعلن وزير البيئة يومها ​محمد المشنوق​ ، ليعود لاحقا ، وبعد ترك الوزارة ، ليقول أن ضغوطا سياسية مورست عليه من أجل الغاء نتيجة المناقصة ، وابقاء الوضع الفاسد على ما هو عليه .

مناقشات

ما لم يقله المعنيون المباشرون بالقضية ، تداول به نشطاء على ​مواقع التواصل الاجتماعي​ تعليقا على الكلام الطائفي الذي صاحب هذه النقاشات ، وخصوصا القول ان المشروع كان سيلزم لائتلاف  vinci الفرنسية (مع شركة ميشال أبي نادر) ، لكنه سحب منها لتمنح الى شركة مسيحية. فلو كان المقياس هو الطائفية فلماذا حرم ابي نادر من التلزيم؟

ولكن الاسوأ والاخطر هو الحديث عن "تلوث مسيحي" ، فهل اصبح للتلوث ايضا لون طائفي ، وهل حقا ان المعمل ، اي معمل  ( نفايات او غيرها ) ، وفي اي بقعة من لبنان يلوث محيطه القريب فقط ، وهل من منطقة "صافية" طائفيا.

و بالنسبة لاستبعاد الشركات ( وهو غير صحيح في الاصل ) فهل المقصود انه استبعاد لشركتين "مسلمتين" لصالح شركتين "مسيحيتين" ، وهل تصنيف الشركات بات  طائفيا على أساس مذهب مؤسس او مالك الشركة ، وهل المقصود ان المسلمين استبعدوا عن مشروع "ابادة المسيحيين" ، منعا لاثارة الفتنة الطائفية ، ليتولاه مسيحيون ، لتسهيل تمريره ؟؟

من حق النواب ان يسألوا ويناقشوا ويحاسبوا ، ومن حق البلدية والشركات الرد ، ولكن ليس من حق احد استخدام هذه اللغة الطائفية . والصواب ان يعود نقاش موضوع المحرقة الى اطاره العلمي التقني البيئي والاقتصادي.

نقاش تقني

هل يشكل معمل التفكك الحراري ، المسمى محرقة ، خطرا على الصحة العامة ؟

الواقع ان هذا الخيار يحظى بالتغطية والموافقة النيابية من خلال القانون رقم 80 للعام 2018 ، ومن خلال قرارات مجالس الوزراء السابقة ، وهو كاي خيار تكنولوجي آخر لمعالجة النفايات ينبغي ان يتم بمراقبة شديدة على التنفيذ ( بناء المعمل وتشغيله ).

وفي اطار الكلام عن الرقابة ، أكدت النائبة يعقوبيان ان شركة هيتاشي السويسرية مثلا ، تراقبها الدولة في ​سويسرا​ ، اما في لبنان فلا توجد هذه الرقابة . ولكن فاتها ان ذلك ممكن في لبنان ،  فقد وضع المشرع اللبناني نهاية العام الماضي، أسس هذه الرقابة من خلال الهيئة الناظمة لادارة ​النفايات الصلبة​ ، والتي يمكن ان تتنوع طرقها ، من طمر وحرق .. وغيرها . اذا الكرة في ملعب الحكومة وليس الشركات؟

والواقع ان لا حل لازمة النفايات في لبنان الا بتنويع طرق معالجتها ، كما ورد في مداولات مؤتمر عقدته ​نقابة المهندسين​ مطلع العام 2017 :

-حرق النفايات وتحويلها إلى طاقة في المدينة الأكثر اكتظاظاً بالسكان.

-فرز النفايات وتحويلها إلى ​أسمدة​ واستخراج ​الوقود​ منها في المناطق الحضرية الأخرى.

-إنشاء مطامر صحيّة في المناطق الريفية.

-تنظيف أكثر من 700 مكب عشوائي على الأراضي اللبنانية كافة.