"الفساد"... هذه الكلمة الضخمة بمضمونها، تشكل العنوان العريض لحياة كل ​لبنان​ي في الآونة الأخيرة. فمنذ تأليف الحكومة، مرورا بجلسات الثقة، ووصولا الى ما بعد الثقة، نعيش ظاهرة "​مكافحة الفساد​"، حيث تتبادل الأطراف السياسية كافة تهم الفساد والهدر بين بعضها البعض، في ظل غياب الدلائل على الحل، حتى بدأنا نشعر أن هذا الجدل عقيم من ألفه الى يائه، وأننا نهايته حائط مسدود.

فهذا المفهوم متجذر في أعماق لبنان، وليس وليد الساعة، وبالتالي الكل "بيزيحا عن ضهرو" ويتهم غيره، ولا أحد يسمّي الفاسد، بل يدافع عن زميله في الحزب أو الكتلة النيابية.

ورقم الـ11 "ولّع" البلد! فبين 11 مليار "سيدر" و11 مليار في قضية السنيورة، عادت الانقسامات وcountdowns لنقع مجددا رهينة الانتظار من جهة، والـ"قيل وقال" من جهة أخرى.

من ناحية ثانية، تستمر المناكفات السياسية حتى في ظل الوعود بأن يكون العنوان العريض للحكومة الحالية "الى العمل"، وآخر تجلياته ظهرت في موضوع استبعاد وزير شؤون النازحين عن مؤتمر ​بروكسل​ المتعلق بموضوع النازحين السوريين.

كان لـ"الاقتصاد" مقابلة خاصة مع الخبير الإقتصادي، د. ​سمير الضاهر​، للحديث عن ​الموازنة​، و"سيدر"، وموضوع النازحين السوريين.

الى أي مدى بإمكاننا الانتظار بعد من أجل إقرار موازنة، خاصة أن وزير المال شدد على عدم إمكانية إقرارها دون قطع الحساب؟ وهل أن فرص نجاح "سيدر" ما زالت موجودة في ظل هذا التأخير؟

لقد تعدينا المهلة الدستورية لإقرار الموازنة، اذ كان من المفترض أن تصدر قبل نهاية العام 2018، مع قطع الحساب الخاص بعام 2017.

وبالتالي، في ظل غياب الحكومة في تلك الفترة، لا يحق لحكومة تصريف الأعمال التقدم بمشروع الموازنة.

ولا أعلم لماذا لم يتم الى حد اليوم طرح مشروع قانون الموازنة الى ​مجلس النواب​.

أما بالنسبة الى موضوع "سيدر" فمن الشروط أن نشهد على انتظام في المالية العامة، ووجود الموازنة. ومن هنا، اذا تعهد مجلس النواب في دراسة الموازنة وإصدارها فمن الممكن بعد إقرارها.

ما هي أهم النقاط التي يجب أن تتضمنها هذه الموازنة القادمة؟

ينقسم مؤتمر "سيدر" الى شقين: الشق المالي أي المساعدة المالية، والشق الإصلاحي.

الشق المالي يتضمن حوالي 11 مليار دولار من القروض التي نزيدها على ​الدين العام​، الذي بلغ بدوره نحو 84 مليار دولار، ومن المتوقع أن يصل الى 91 مليار دولار في نهاية العام 2019. واذا أضفنا اليه الـ11 مليار الخاصة بـ"سيدر"، سيتعدى بذلك الـ100 مليار دولار.

أما بالنسبة الى الإصلاحات، فـ"سيدر" يتطلب تخفيض العجز وحل معضلة كهرباء لبنان. ومنذ 20 عاما نتكلم عن خفض هذا العجز لأنه يضاف الى الدين العام في نهاية العام.

هل أن هذه الحكومة قادرة على تخفيض العجز وزيادة الإيرادات؟

العجز هو الفرق بين الإيرادات والنفقات، وبالتالي فإن تخفيضه ينقسم الى شقين:

أولا خفض النفقات، ومن هنا أرى صعوبة في تحقيق ذلك. فنفقات الخزينة تنقسم على الشكل التالي: حوالي 37% مخصصة للرواتب والأجور، و33% لخدمة الدين العام أي الفوائد على الدين، وبين 15% و20% لدعم لشركة كهرباء لبنان.

وبالتالي قرابة 90% من النفقات غير قابلة للتخفيض. فالدين مستحق الفائدة موجودة وترتفع بشكل تصاعدي ومتواصل بسبب زيادة الدين العام وتراجع التصنيف الائتماني للبنان، أي ارتفاع كلفة الاقتراض في ظل ارتفاع مستوى الفوائد العالمية.

أما بالنسبة الى الرواتب، فلا يمكن خفضها؛ اذ تم الحديث عن وقف التوظيف العشوائي، ولكن لا يمكن الاستغناء عن الموظفين القدامى، وخاصة في لبنان.

وفي ما يتعلق بموضوع ​الكهرباء​، يجب تطبيق الشراكة بين القطاعين العام والخاص، لكي يكون قسم من الاستثمار قادم من أموال خاصة، وبالتالي لا يشكل عبئا على خزينة الدولة.

وحول موضوع الإيرادات، يجب تعديل نظام الضرائب، وهنا لا نتحدث عن زيادات في الضرائب! فهناك مفهوم أساسي خاطئ في النظام الضريبي في لبنان، والضريبة المباشرة على الأرباح والرواتب تشكل أقل من 25% من مجموع إيرادات الدولة، في حين أن 75% المتبقية هي ضرائب غير مباشرة ورسوم، مثل الـ"TVA" (ضريبة على الاستهلاك)، والعائدات الجمركية (التي تعد أيضا ضريبة على الاستهلاك لأنها تزيد من أسعار السلع المستوردة، ولبنان يستورد الكثير، اذ وصل حجم الاستيراد الى 21 مليار دولار في 2018 مقابل 3 مليار دولار تصدير)، والرسوم على الخليوي،...

لذلك، من المهم التركيز على الإصلاح الضريبي من خلال رفع نسبة الضريبة المباشرة والتخفيف من ​التهرب الضريبي​ والـ"tax avoidance"، بالاضافة طبعا الى وقف الهدر.

وبالتالي فإن إمكانيات الإصلاح موجودة، ولكن التخوف رفع الضرائب غير المباشرة موجود أيضا. ولا أستبعد أن نشهد على ارتفاع الـ"TVA"، مع العلم أن المواطن لم يعد يحتمل على الإطلاق.

فعندما تمت زيادة هذه الضريبة 1%، حصلت الخزينة على إيرادات إضافية وصلت الى حوالي 250 مليون دولار، لكنها لم تكن مجدية. ففي حالات الركود الاقتصادي، على الحكومة أن تشجع الاستهلاك لأن ​الناتج المحلي​ يرتفع مع ارتفاع الاستهلاك. وفي حال زيادة الـ"TVA" مجددا ستحصل الخزينة على 250 مليون دولار، ولكن هذا المبلغ سنسحبه عمليا من جيب المواطن لإعطائه الى الخزينة. في حين أنها لو بقيت في جيبه، لكان استهلك فيها. فالدولة لا تستخدمها في استثمار جيد وبالتالي لا توجد منها أي فائدة اقتصادية.

من جهة أخرى، هل برأيك من الممكن أن يستقيم الاقتصاد اللبناني في ظل وجود 1.5 مليون نازح سوري على أراضيه؟

وجود النازحين في لبنان يشكل عبئا طائلا على المالية العامة، لأن الكلفة التي تتكبدها ​الدولة اللبنانية​ لتأمين الخدمات الصحية والتعليم وغيرها من الأمور، هي أقل من المساعدات التي تصل الينا. فالمساعدات لا تصل على المستوى المطلوب من أجل توفير الكلفة الكاملة.

وبالتالي فإن النازحين يكبدون لبنان كلفة اقتصادية مباشرة وغير مباشرة. والكلفة غير المباشرة تتمثل على سبيل المثال، في زيادة استهلاك المياه والكهرباء وبالتالي زيادة الدعم على ​مؤسسة كهرباء لبنان​، ما يؤدي الى زيادة تكاليف غير مباشرة على الخزينة. الى جانب استهلاك الطرقات العامة من قبل السيارات وزحمة السيارات، واستخدام البنى التحتية التي لا تمتلك بالأساس الطاقة الاستيعابية الكافية.

وأضف الى ذلك المضاربة المباشرة من قبل اليد العاملة السورية، وغياب التنظيم في القطاع. وبالتالي تضيع الفرص من أمام العامل اللبناني، ما يؤثر على مستوى الحياة، ومعدلات البطالة، ومستوى الفقر، وهجرة اللبنانيين.

ومن هنا يتوجب على المسؤولين القيام بعمل دؤوب من أجل تأمين العودة الآمنة للنازحين، بالاضافة الى الطلب من ​المجتمع الدولي​ والدول المانحة توجيه كل المساعدات المباشرة اللازمة.