توقعت مجلة "​الإيكونوميست​" البريطانية في عددها الصادر قبل ايام، أن يبلغ معدل النمو الاقتصادي في ​سوريا​ 9,9% خلال العام 2019، في مؤشر هو الأعلى عالميا. وقد سارعت أطراف كثيرة للتشكيك ، أو على الاقل استغراب هذه النتيجة. علما أن المجلة لفتت بشكل واضح الى أنه في حالة سوريا تتأكد حقيقة أن الأرقام الكبيرة "قد تعكس أدنى نقطة انطلاق".

المعارضة السورية قللت من أهمية هذا الرقم ، معتبرة أن "​الاقتصاد السوري​ توقف ووصل إلى درجة الصفر، فالأساس هنا هو نقطة المقارنة، فإذا تمت المقارنة على أساس ما قبل العام 2010 فالتوقعات والنسب غير صحيحة. وإذا تمت المقارنة مع سنوات الحرب فالنسبة صحيحة" .

لا شك أن نقطة الأساس التي انطلقت منها توقعات "الإيكونوميست" هي النقطة الحالية التي وصل إليها الاقتصاد السوري إلى درجة كبيرة من الانهيار، وبالتالي فإن أي تقدم في حركة الاقتصاد سوف يُعد نمواً، وبما ان عجلات الاقتصاد الآن بدأت تدور ولو ببطء، ويتوقع أن بعض مشاريع إعادة الإعمار سوف تنطلق ، فهذا الأمر يرفع معدل النمو.

ولكن هل هذا المعدل للنمو المتسارع وهمي، كما تقول المعارضة ، لمجرد انه لا ينطلق من المقارنة مع الوضع الطبيعي قبل الحرب؟

قياس النمو

المعروف ان ​معدلات النمو​ تقاس من عام لآخر ، ولا تقاس على اساس حقبات ، ومن الطبيعي جدا ان يقفز النمو في سوريا الى مستويات قياسية مع كل سنة من سنوات السلام مقارنة بمرحلة الحرب . وهذا ماذكرته "الايكونوميست" بوضوح .أما العودة الى مستويات ما قبل الحرب، فينبغي أن تمر أولا بمراحل انتقالية ، والعام 2019 احدها، في مسار تراكمي متصاعد (أو متراجع) ، حسب كل حالة . فحتى ​الحكومة السورية​ لم تبالغ في تفاؤلها بالنسبة لما اوردته المجلة ،واعلن وزير الاقتصاد و​التجارة الخارجية​ السوري سامر خليل إنه "لا يوجد أي توقعات دقيقة رسمية حول معدل النمو الاقتصادي في البلاد خلال العام الحالي، ولا يمكن تأكيد صحة أو واقعية هذه الأرقام وخصوصا مع الحالات الانتقالية التي يعيشها الاقتصاد خلال هذه الفترة".

وتابع: "إلا أنها تتوافق مع نظرتنا الإيجابية لآفاق الاقتصاد السوري خلال المرحلة المقبلة نتيجةً لطبيعة هذا الاقتصاد وتنوعه وما يتسم به من ديناميكية، إضافة للسياسات والإجراءات التي عملت وتعمل عليها الحكومة لاستعادة ​النشاط الاقتصادي​ بحيوية".

خسارة شاملة

لا شك أن بإمكان الاقتصاد السوري تحقيق معدلات نمو ايجابية مهمة بعد الخسائر الكبيرة التي عانى منها في مرحلة الحرب وأدت إلى تراجع كبير في ​الناتج المحلي​ الإجمالي. ووفقا لتقرير ​اللجنة الاقتصادية​ والاجتماعية لغرب ​آسيا​ التابعة للأمم المتحدة (ESCWA)، اعدته نهاية العام المنصرم بمشاركة باحثين سوريين ، فقد رتّبت الحرب السوريّة أضراراً كبيرة كانت آثارها تراجيدية على الشعب السوري والاقتصاد. فخلال ثماني سنوات من الصراع الدموي، خسرت سوريا نحو 538 ألف وظيفة كمعدّل سنوي، وانضمّ سنوياً نحو 482 ألف شخص إلى فئة العاطلين عن العمل، وارتفع معدّل ​البطالة​ فيها إلى 60%.

وعاد متوسّط سنوات الدراسة إلى مستويات عام 2003، إذ انخفض إلى 5.1 سنة، وخرج أكثر من 1.75 مليون طفل من المدرسة، وانخفض العمر المتوقّع عند الولادة بنحو 5 سنوات.

وفي الواقع، لا يعمل اليوم في سوريا سوى 57% من المرافق التعليمية ونصف المرافق الصحيّة. أمام هذه الأضرار الإنسانية يصبح الحديث عن ​الفقر​ المالي أكثر تعبيراً مع ارتفاع معدّلاته بشكل حادّ من 33 إلى 80% بين عامي 2011 و2017.

كما خسر الناتج المحلّي السوري نحو 58% من مستواه بالمقارنة مع عام 2010. وتقدّر الخسائر المتراكمة في الناتج بنحو 269 مليار دولار. أمّا حجم دمار رأس المال المادي فقد بلغ نحو 120 مليار دولار.

خسرت ​الليرة السورية​ 10 أضعاف قيمتها، وزاد التضخّم نحو 8 مرّات، وخسرت ​الأجور​ 10 أضعاف قيمتها، وانخفضت الإيرادت 4.5 مرّات، والنفقات نحو 4 مرّات. وتمّ تدمير بيئة الاستثمار والتجارة وهربت الرساميل، وكانت الخسارة في رأس المال البشري كبيرة وضعضعت هيكلية القوى العاملة.

نقطة الانطلاق

شكل العام 2018 نقطة انطلاق جديدة للاقتصاد السوري ، مع ظهور النتائج الاولية للاجراءات الحكومية المتخذة قبل عامين ، مع انتهاء المعارك في مساحات شاسعة من الاراضي السورية عام 2016 .

ووفقا للارقام الحكومية فقد عادت ​منشآت​ ​القطاع الخاص​ الصناعي الى العمل ( 14 ألف منشأة في المناطق الصناعية) ، وتم إطلاق 17 منطقة للصناعات الحرفية والمحلية تتناسب وفق خصوصية كل منطقة. وشهد القطاع الزراعي تحسنا ملحوظا نتيجة للدعم الحكومي حيث تم رصد اعتمادات مفتوحة لهذا القطاع وتشجيع القروض، وتم تحرير قيود ​استيراد​ كل ما يلزم هذا القطاع .

وعلى الصعيد التجاري عملت الحكومة على معالجة واقع إجازات الاستيراد لتصب في المصلحة الوطنية ، وسجلت قيمة الصادرات ارتفاعا مضطردا منذ العام 2015 وحتى العام 2018 لتبلغ حوالى 5 مليارات دولار ، خصوصا مع توسع رقعة انتشار الصادرات من 80 دولة عام 2016 إلى 105 دول عامي 2017 و 2018 .

أما بالنسبة لورشة اعادة تأهيل البنى التحتية فتظهر النتائج في قطاع إنتاج ​الطاقة​ الكهربائية الذي سجل انتاج 2000 ميغاواط، في العام 2016 ، ليقفز الى 4000 ميغاواط عام 2018 ، ومن الممكن أن يصل إلى 5500 ميغاواط في حال توفر كميات كافية من ​الغاز​ والفيول.

"الايكونوميست "نفسها كانت قد لاحظت هذا النهوض وتوقعت في تقرير سابق ومطول عن الاقتصاد السوري (منتصف العام 2018 ) ، ارتفاع نسبة مساهمة قطاع الخدمات في 2019 إلى 125% في الناتج المحلي.

ادامة النمو

لكل الاسباب المذكورة من المؤكد ان سوريا ستشهد قفزات نمو ، ولكن الاهم هو ادامة هذا النمو ليعود ويبلغ مستويات ما قبل الحرب ، وتجاوزها صعودا بشكل ثابت مستمر . وتمتلك سوريا المقومات لذلك. فرغم الحرب الدائرة إلّا أن الحياة الاقتصادية والاجتماعية في سوريا لم تتوقّف، ما يبيّن أهمّية العنصر السوري بوصفه محرّكاً أساسياً للنموّ وتوليد فرص العمل وتلبية حاجات السكان وإعادة دمج المتقاتلين والنازحين، وذلك من خلال الجهود والمبادرات التي يمكن للمجتمعات المحلّية والأفراد والأسر والشركات أن تقوم بها لتحفيز الحياة الاقتصادية بعد الحرب، والدور الذي يمكن للمغتربين الناشطين لعبه في تمويل عملية إعادة الإعمار والتأثير عليها.

أمّا أبرز القطاعات التي يمكن أن تحرّك النمو ، فهو القطاع الزراعي الذي يتطلّب عمالة كثيفة ويضمن ​الأمن الغذائي​. و​قطاع البناء​ الذي يتطلّب أيضاً عمالة كثيفة ويبرز كحاجة أساسية للمجتمعات المتضرّرة والمهجّرين واللاجئين العائدين. والقطاع المالي الوسيط الذي يحرّك المصادر المالية من الداخل (المدّخرات) ومن الخارج (التحويلات) نحو القطاعات التي تحتاج إلى التمويل، لولا أنه الآن مكبّل بالعقوبات الخارجية. وكذلك ​الشركات الصغيرة​ والمتوسّطة وخصوصاً في قطاع التصنيع التي تملك فيها سوريا سوقاً واسعة وقدرة تنافسية. فضلاً عن قطاعات ​البنية التحتية​ الاجتماعية والاقتصادية المفترض إعادة بنائها والتي تزيد الإنتاجية وتخفّض الكلفة وتوسّع الأسواق وتعيد تكوين رأس المال البشري.

مساعدات واصلاحات

هذه الاجراءات هي ذاتية تعتمد على آليات عمل الاقتصاد السوري ، اما بالنسبة للمساعدات الدولية لاعادة الاعمار اذا وصلت ، فتتطلب اصلاحات مالية ونقدية ، وفقا لتقرير ​الاسكوا​ المذكور اعلاه ، واهمها تحقيق استقلالية المصرف المركزي، وتأمين استقرار العملة كمفتاح لجذب رأس المال، وذلك من خلال تشكيل مخزون من ​العملات​ الصعبة عبر تدفّقات ​المساعدات​ الخارجية و​الاستثمارات الأجنبية المباشرة​ و​تحويلات المغتربين​ والنموّ المرتفع للاقتصاد وخصوصاً في المراحل الأولى، وضبط التضخّم رغم كونه أحد التحدّيات الأساسية عبر تأمين توزاناته من خلال المساعدات التي يمكن الاستناد إليها لاستبدال عائدات السندات، ما يقلّل من اعتماد الحكومة على التمويل التضخّمي. فضلاً عن اعتماد نظام سعر صرف مرن ضمن حدود يمكن السيطرة عليها وتفادي تقلّبات سعر الصرف وبما يترك مجالاً لإدارة ​التنافسية​ وتصحيح الخلل في التوازن التجاري، ويؤمّن مرونة في الأسعار التي تشجّع التصدير.

وبطبيعة الحال فهذا مرهون بوصول المساعدات الخارجية للمساهمة في اعادة الاعمار والتي تقدر كلفتها بـ400 مليار دولار .. ولكن تلك مسألة أخرى .