مع إنتهاء العام 2018 وبداية العام الجديد، يجمع كافة الخبراء الإقتصاديين على تراجع مخيف في كل المؤشرات الإقتصادية في لبنان، وأداء ضعيف لكافة القطاعات.

وعلى الرغم من ان ​القطاع المصرفي​ كان إستثناءً في السنوات الماضية، حيث كان يغرد وحيداً بنسب نمو جيّدة إلى حدٍ ما، إلا ان العام 2018 كان مختلفاً، فالصعوبات بدأت تطرق باب القطاع المصرفي أيضاً، الذي جاهد في السنوات الماضية لتفادي العقوبات الدولية، والإلتزام بالمعايير المفروضة عالميا، خاصة بعد تصاعد العقوبات الإقتصادية على ​طهران​، وبالتالي على ​حزب الله​.

ومنذ نحو السنة ونصف السنة، بدأت أسعار الفوائد في لبنان ترتفع في شكل متسارع. وأبرز الارتفاعات سجّلت في الفترة التي تلت مشكلة إستقالة رئيس الحكومة سعد الحريري من السعودية في مطلع تشرين الثاني الماضي، حين ازدادت معدلات الفوائد على الودائع بما بين نقطتين وثلاث نقاط مئوية. ولاحقاً، ازدادت بنحو نقطة مئوية إضافية. ولم يطل الأمر، حتى قام عدد من المصارف أيضا بإصدار منتجاً يعرض فيه على الزبائن فوائد تصل إلى 15% مقابل تجميد الأموال لخمس سنوات ب​الليرة اللبنانية​.

وقد بررت ​جمعية المصارف​ هذه الارتفاعات في الفوائد على الودائع بأنه يوازي مردود ​سندات الخزينة​ بالدولار (يوروبوندز) البالغ 9%، وتضاف إليه كلفة التأمين على ​الدين اللبناني​ البالغة 6%، أي ما مجموعه 15%. وكل هذا يعني أن الفوائد على القروض ارتفعت إلى مستويات عالية لم يعتد عليها المواطن اللبناني سابقا.

فماذا تعني كل هذه المؤشرات ؟ وهل بدأت الازمة الإقتصادية تنعكس فعلياً على القطاع المصرفي ؟ وما أثر إرتفاع الفوائد بهذه النسب الكبيرة على الوضع الإقتصادي بشكل عام ؟ وما هي أبرز التحديات امام القطاع المصرفي في العام الجديد ؟

كل هذه الأسئلة أجاب عنها، كبير الإقتصاديين ومدير وحدة الدراسات في بنك "بيبلوس" نسيب غبريل، في هذه المقابلة مع "الإقتصاد".

بعد ان شكّل القطاع المصرفي إستثناءً في السنوات الماضية بين القطاعات الإقتصادية حيث حقق نسب نمو جيّدة، عانى في العام 2018 من صعوبات كثيرة .. فما هي أبرز صعوبات العام 2018، وهل إرتفاع الفوائد على الودائع والتسليفات هو مؤشر سلبي ؟

بداية، هناك مفهوم خاطىء لدى معظم الناس بأن ​القطاع المصرفي اللبناني​ يعيش على جزيرة، ويحقق بإستمرار أرباحاً خيالية في كل عام، وبنسب مرتفعة جداً، وبأنه لا يتأثر بالظروف المحيطة به. وهذا الإعتقاد خاطىء بلا شك، لان القطاع المصرفي هو أكثر قطاع يتأثر ببيئته التشغيلية، وبأي تطورات قد تطرأ على هذه البيئة، سلبية كانت ام إيجابية.

فالقطاع المصرفي هو القطاع الوحيد المُسلّف لكل القطاعات الاخرى في الإقتصاد أضافة إلى الأفراد والأسر، وأي تراجع او تدهور في أي قطاع من القطاعات الإقتصادية، سينعكس مباشرة على القطاع المصرفي. والتراجع الذي شهدناه في الأشهر الست الأخيرة إن كان على مستوى ثقة المستهلك، وتراجع ​السيولة​ لدى التجار، وجمود الحركة في ​القطاع العقاري​ .. كلها إنعكست على القطاع المصرفي في العام 2018، حيث ان التسليفات للقطاع الخاص المقيم في الأشهر الـ 11 الاولى هبطت بقيمة 1.2 مليار دولار، في حين إرتفعت التسليفات للقطاع الخاص غير المقيم. وهذه الأرقام تثبت بان القطاع المصرفي لا يعيش على جزيرة، وهو معرّض للتأثر من أي تطورات، سلبية كانت أم إيجابية.

وبحسب الأرقام فإن القطاع المصرفي سلّف للقطاع الخاص تراكميا ولغاية شهر تشرين الثاني من العام الماضي 59 مليار دولار، في حين ان تسليفاته للقطاع العام في الفترة عينها بلغت 32.5 مليار دولار .. لذلك فإن المصارف تأثرت بشكل مباشر بكل ما يحصل، وزاد هذا التاثير بسبب إرتفاع حاجات الدولة للإستدانة بعد تفاقم العجز في الموازنة، الذي إرتفع من 2 مليار دولار في الأشهر التسعة الأولى من 2017، إلى 4.5 مليار دولار في الأشهر التسعة الأولى من 2018. فإضطرت المصارف لرفع ودائعها التجارية في ​مصرف لبنان​ إلى 130 مليار دولار، وهذا الرقم يتضمن الإحتياطي الإلزامي بالليرة والدولار، وشهادات الإيداع بالليرة والدولار، إضافة إلى الودائع المباشرة من قبل المصارف.

أما بالنسبة لموضوع الفوائد وإرتفاعها .. فهناك سببان لهذا الإرتفاع، الأول خارجي والثاني داخلي.

السبب الخارجي بدأ في نيسان 2018، ويتمثل بقرار ​الإحتياطي الفيدرالي​ برفع الفوائد للمرة الثامنة منذ عام 2015، وإعطاء إشارات واضحة بإمكانية الرفع المستمر للفائدة بعد تحسن الإقتصاد الاميركي، وإنخفاض نسب البطالة إلى مستوى قياسي. وهذا الامر أدى إلى إرتفاع سعر صرف الدولار مقابل العملات الأساسية الاخرى، مما ادى بدوره إلى خروج رؤوس اموال من الأسواق الناشئة إلى السوق الأميركي.

وقبل كل ذلك كان هناك حرب بين الدول العربية في المنطقة لإستقطاب رؤوس الأموال بالعملات الاجنبية، وخاصة دول الخليج التي تأثرت بهبوط ​أسعار النفط​، والتي عانت من عجوزات في موازناتها وإضطرت للإستدانة في 2017 و 2018. من جهة اخرى سعت مصر بعد الإصلاحات التي فُرضت عليها من قبل صندوق النقد الدولي، لإستقطاب العملات الأجنبية ورؤوس الاموال بكل الطرق، وسوقت لنفسها كوجهة للإستثمارات الأجنبية المباشرة .. وبالتالي زادت المنافسة بين كل هذه الدول، ومعها الاردن والمغرب العراق وتركيا وغيرها. كل تلك الامور دفعت لبنان غلى رفع الفوائد ليتمكن من الإستمرار في المنافسة الشرسة، مع الإشارة إلى ان نسب الفوائد في لبنان مازالت أقل بكثير من تلك الموجودة في مصر وتركيا على سبيل المثال.

بالإنتقال إلى السبب الداخلي لرفع الفوائد، يجب أن يعلم الجميع بأن المسؤولية ملقاة بشكل كامل على القطاع المصرفي بشقيه (مصرف لبنان و​المصارف التجارية​) لتمويل عجز الموازنة اولا، وتمويل ​عجز الميزان التجاري​ ثانيا الذي يصل إلى 15 مليار دولار. فالقطاع المصرفي يمول العجزين بمفرده، في ظل عدم وجود سوق بورصة قادر على تمويل الشركات ومساندة المصارف، وغياب سوق خاص لسندات الشركات. وكل ذلك وسط غياب أي حسّ بالمسؤولية من قبل السياسيين والسلطة الحاكمة، والفراغ الحكومي القاتل الذي دخل بشهره الثامن. كل هذه الأسباب ستؤدي بدون شك إلى إرتفاع الفوائد ولا يجب أن يستغرب أحد.

ولكن على الجميع أن يعلم بأن ما يتم التسويق له والتهويل من خلاله فيما يخص موضوع الفوائد هو أمر غير حقيقي. فالفوائد ليست 15% و 16% على كل الودائع والتسليفات، فمعدّل الفوائد على الودائع بالليرة اللبنانية في أخر تشرين الثاني من العام 2018 بلغ 7.97%، في حين ان معدل الفوائد على الودائع بالدولار هي 4.9% فقط.

ففوائد الـ 15% هي على منتج محدد فقط، وهي محصورة بالودائع التي يتم تحويلها من دولار إلى ليرة لبنانية، وتجميدها على مدى 5 سنوات. وحتى الان مجموع الودائع التي تم تحويلها وتجميدها لمدة خمس سنوات لا يتخطى الـ 1% من مجموع الودائع في القطاع المصرفي، أي 1% من مجموع 173 مليار دولار، وهذه نسبة قليلة جداً.

الفوائد على الودائع إرتفعت بدون شك، ولكن هذا الإرتفاع ليس هو السبب في جمود الحركة الإقتصادية في لبنان وإلى شح السيولة كما يتم التسويق له. أنا لا أقول بأن إرتفاع الفوائد لم يرفع من الكلفة التشغيلية للشركات، ولكن السبب الأساسي لجمود الحركة وشح السيولة موجود قبل إرتفاع الفوائد، فمعدل نسب النمو للإقتصاد اللبناني من 2011 وحتى اليوم لم يتخطى الـ 1.5% سنويا، وفي 2017 بلغت نسبة النمو 0.6%، والتوقعات لعام 2018 هي 1%، وبرأيي سيكون النمو بين 0.3 و 0.5%. لذلك فإن الأسباب الاساسية موجودة، وهي تتمثل بإرتفاع الكلفة التشغيلية على كاهل ​القطاع الخاص​، وبحسب المسح السنوي الذي يجريه المنتدى الإقتصادي العالمي لمدراء الشركات في لبنان، يقول بأن العوائق الأساسية للقطاع الخاص في لبنان هي: الضبابية السياسية، الفساد في ​القطاع العام​، ترهل البنى التحتية، صعوبة وكلفة معاملات الشركات مع الدوائر الرسمية، عدم وضوح السياسات الإقتصادية والمالية، الضرائب المرتفعة، والتضخم الكبير.

فالتضخم وصل إلى 6.3% في الأشهر الـ 11 الأولى من 2018، كما ان الضرائب التي تم فرضها لتمويل سلسلة الرتب والرواتب سببت ردة فعل عكسية أدت إلى جمود الإقتصاد وسحب السيولة من الأسواق. ففي ظل نسب النمو منخفضة، والتباطؤ الإقتصادي لا يجب رفع الضرائب بل يجب العمل على إعطاء حوافز وتخفيض الضرائب. ولكن للأسف تمرير السلسلة كان قرار سياسي إنتخابي، وتقديرات الكلفة لم يكن دقيق، وطريقة تغطيتها بزيادة الضرائب كان خطأ مميتاً. فرفع الضريبة على الدخل والأرباح والاموال المنقولة يؤدي إلى إعادة توزيع ضخم للسيولة من القطاع الخاص المنتج، إلى القطاع العام غير المنتج، وهذا ما أدى إلى ازمة السيولة في القطاع التجاري، والقطاع العقاري، وبالإقتصاد ككل.

ألا تعتقد ان هناك تأثير سلبي لإرتفاع الفوائد على التسليفات والقروض الشخصية ؟ وما هي إنعكاسات ذلك على المواطن اللبناني بشكل خاص وعلى الحركة بشكل عام ؟

لا شك ان إرتفاع الفوائد على الودائع سيؤدي لإرتفاع الفائدة على التسليفات، ولكن هذه الفوائد لم ترتفع بنسب كبيرة. فمعدل فوائد التسليف بالليرة اللبنانية إرتفع من 8% في تشرين الثاني 2017، إلى 10.15% في تشرين الثاني 2018، أما معدل فوائد التسليفات على ​الدولار الاميركي​ إرتفع من 7.32% في تشرين الثاني 2017، إلى 8.6% في تشرين الثاني 2018.

وكما ذكرت سابقا، الأعباء التشغيلية على كاهل القطاع الخاص موجودة أصلا، وأسبابها عديدة كما ذكرنا، فالسبب ليس فقط إرتفاع فوائد المصارف. أضف إلى كل ذلك الضرائب الجائرة على القطاع الخاص وعلى الافراد.

فإرتفاع الفوائد زاد بدون شك من هذه الاعباء التشغيلية، ولكنه ليس السبب الرئيسي والأساسي للجمود الإقتصادي الحاصل ولشح السيولة في السوق.

ما هي توقعاتك للعام 2019 ؟ وإلى أين تنتجه إقتصاديا برأيك؟

2019 تحتوي على عدّة سيناريوهات. ولكن لا شك ان المنحى الذي إنتهت عليه العام 2018 مستمر مع بداية 2019، لناحية التباطؤ الإقتصادي وإنتظار وترقّب المستهلك والمستثمر والشركات المقيمة والقطاع المصرفي والمغترب اللبناني.

ولكن من جهة اخرى هناك إستمرار بإستقرار سعر صرف الليرة اللبنانية، ولا خوف أبدا في هذه النقطة. ومصرف لبنان بالتعاون مع المصارف التجارية يمتلك الخبرة والإمكانيات للحفاظ على إستقرار سعر الصرف، ولتمويل حاجات الدولة للإستدانة.

ولكن كما ذكرنا سابقاً، المسؤولية ملقاة منذ 25 سنة على كاهل القطاع المصرفي، واليوم نحن بحاجة – أكثر من أي وقتٍ مضى – للسلطة التنفيذية والسلطة التشريعية وللطبقة السياسية، من أجل تحمّل جزء من هذه المسؤولية على الأقل، وذلك لمواجهة تحديين أساسيين، الاول هو تخفيض حاجات الدولة للإستدانة من خلال الإصلاحات الحقيقية لتقليص العجز في ​الموازنة العامة​. والثاني هو تحفيز النمو، عبر إعطاء تحفيزات للشركات وللقطاع الخاص.

فتشكيل الحكومة سيكون إحدى الإشارات الإيجابية، ولكنه ليس هو الحل، فأي حكومة قادمة عليها أن تضع نصب أعينها الملفات الإقتصادية والمالية والمعيشية، وأن تقوم بتطبيق الإصلاحات التي ذكرتها عبر تخفيض حاجات الدولة للإستدانة وتخفيض العجز وتحفيز النمو، والعمل للإستفادة من فرصة مؤتمر "سيدر" التي مازالت قائمة، وستبقى قائمة في 2019 برأيي. ولكن على المسؤولين إرسال إشارات ثقة إلى السوق عبر تشكيل حكومة أولا، والبدء بالخطوات التي ذكرناها. ومن الأفضل تشكيل حكومة منسجمة من 18 وزيرا، بدلا من تشكيل حكومة موسعة من 30 أو 32 وزيرا.