في مقابلته التلفزيونية الاسبوع الماضي حذر النائب السابق وليد جنبلاط من الازمة المعيشية الخطيرة التي تصيب ال​لبنان​يين ، معتبرا ان المؤتمرات الدولية الداعمة للبنان ، مثل مؤتمر "سيدر " ، لا تحل المشكلة ، مركزا على ان السياسية الاقتصادية المعتمدة في لبنان هي في العمل على زيادة النمو بتكبير الاقتصاد، ولكن من دون الالتفات الى السبب الحقيقي للفقر ، اي انعدام التوزيع العادل للدخل الوطني.

لقد بينت كل الدراسات الاقتصادية منذ العام 2000 وحتى اليوم ان مستويات تركز الدخل والثروة في لبنان مرتفعة جدا، فالفئات الأكثر ثراء من اللبنانيين تسجّل أعلى مستويات النمو في الدخل الوطني، في حين يقبع السواد الأعظم في منطقة تتراوح بين خط ​الفقر​ وما تحته.

لطالما كان التفاوت في توزيع الدخل قائما في لبنان ، فمنذ العام 1960 ،كانت نسبة 4% من السكان تستحوذ على 32% من إجمالي الدخل الوطني، فيما يتقاسم 50% من السكان 18% من إجمالي الناتج (2% من الناتج للـ9% الأكثر فقراً).

هذه الحالة من انعدام المساواة تفاقمت تدريجياً، خصوصاً بعد انتهاء الحرب اللبنانيّة، حتى أصبح لبنان "مصنّفاً ضمن الدول التي تسجّل أعلى مستويات تفاوت الدخل وانعدام المساواة في العالم".

وفي دراسة حديثة نسبيا ، تشمل المرحلة بين عامي 2005 و 2014 ، اعدتها الباحثة في كلية ​باريس​ للاقتصاد ليديا أسود، بإشراف الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي، تبين ان لبنان "يعاني من تركّز شديد في الدخل”. فهناك 10% من السكان يستحوذون على 55% من الدخل الوطني، و1% منهم فقط يستحوذون على 25% منه". أكثر من ذلك، ولدى تحليل معدلات الثروة، يتبيّن أن "فئة الـ10% الأكثر ثراءً تستحوذ على 70% من إجمالي الثروة الوطنية، فيما تستحوذ فئة الـ1% الأكثر ثراءً على 40% من هذه الثروة".

وفي دارسة ثانية ، يتبين انه منذ عام 2010، يتراجع نصيب الفرد من ​الدخل القومي​ الإجمالي في لبنان باطراد. ووفق حسابات غير رسمية ، تراجع هذا النصيب من 8756 دولاراً في عام 2013 إلى 8441 دولاراً في عام 2016، أي إنه خسر 315 دولاراً في أربع سنوات، وهذا يؤشّر إلى انخفاض الدخل المحلي المتاح للاستهلاك والادخار قياساً إلى ​عدد السكان​.

المعروف ان ​البنك الدولي​ يعتبر أن المقياس الأكثر تحديداً للتنمية الاقتصادية، هو الذي يقيس نصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي (GNI) ، فهذا المقياس، يُعبر عن قيمة الدخل الفعلي الذي حققه جميع المنتجين في البلد، بعد حسم صافي الدخل الأولي الذي حصل عليه غير المقيمين من الاقتصاد المحلي (كتعويضات الموظفين والدخل العقاري والفوائد وعائدات الأسهم والملكيات الأخرى). انطلاقاً من هذا المقياس، عمد البنك الدولي طيلة 50 عاماً إلى ​تصنيف​ البلدان وفق مستويات الدخل تبعاً لتقديرين فقط: تعداد السكّان ونصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي. ووفق آخر تصنيف، توزّعت بلدان العالم على 4 مجموعات، على الشكل التالي:

مجموعة البلدان المنخفضة الدخل، التي يقلّ فيها نصيب الفرد عن 1005 ​دولارات​ سنوياً. وتضمّ هذه المجموعة 31 دولة.

مجموعة الشريحة الدنيا من البلدان المتوسطة الدخل، التي يتراوح نصيب الفرد فيها بين 1006 دولارات و3955 دولاراً، وتضمّ هذه الشريحة 53 دولة.

مجموعة الشريحة العليا من البلدان المتوسطة الدخل، التي يتراوح نصيب الفرد فيها بين 3956 دولاراً و12235 دولاراً، وتضمّ 56 دولة، من بينها لبنان.

مجموعة البلدان المرتفعة الدخل، التي يفوق فيها نصيب الفرد 12236 دولاراً، وتضمّ 78 دولة.

وكما اسلفنا فانه منذ عام 2010، يتّجه نصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي في لبنان نزولاً.

يأمل لبنان ان تحقق مقررات مؤتمر "سيدر" تكبيرا في قاعدة الاقتصاد الوطني، وذلك من خلال تنشيط حركة القطاعات الاقتصادية الأساسية وتحديداً ​السياحة​، و​العقارات​، والبناء، و​الصناعة​، و​القطاع المصرفي​. فالاقتصاد الوطني بحاجة إلى معدلات نمو عالية تلامس 7-8% سنوياً في السنوات القادمة كما حصل في بعض السنوات السابقة، وليس معدلات نمو ضعيفة في حدود 1-2% وهي المعدلات السائدة في السنوات الأخيرة.

فهل يترافق تحقيق هذه النسبة من النمو مع توزيع عادل ، او لنقل اكثر عدلا ، للدخل الوطني ؟

يجب ان يقترن النمو الاقتصادى بارتفاع فى مستوى معيشة غالبية أفراد المجتمع ودخولأً أعلى للفقراء ، وذلك لاعتبارات العدالة كقيمة انسانية وحضارية بالدرجة الأولى ، وأيضاً لضمان استمرارية واستدامة النمو. ولتحقيق هذا الهدف لا بد من تخفيض التفاوت فى توزيع الدخل، وذلك باتباع نمط للنمو يفتح مجالات للتشغيل ذات انتاجية مرتفعة وأجوراً أعلى للفئات محدودة الدخل والفئات الفقيرة، مع اتاحة الفرص لهم وتمكينهم من تنمية قدراتهم بما يمكنهم من الاستجابة لما يتاح من فرص تشغيل ذات دخل أعلى وإنتاجية أفضل بما يحقق مصالح جميع الأطراف فى المجتمع.

وبالعودة الى "سيدر" ينبغي اولا ان تنصب ​المشاريع الاستثمارية​ المأمولة منه على معالجة أكبر مشاكلنا ، اي ​البطالة​ ، بتقليل معدلاتها المرتفعة حالياً في حدود 20% بشكل عام حسب تقديرات البنك الدولي وفي حدود 30% بين الشباب حسب تقديرات اليونيسف. وزيادة فرص العمل في الاقتصاد الوطني بشكل متواصل خلال السنوات القادمة فيشكّل صمّام الأمان للإستقرار الاجتماعي في لبنان.

ومن أجل ذلك ينبغي ، ثانيا ، تحرير الاقتصاد اللبناني من طابعه الريعي ، ومن نظام ​المحاصصة​ الطائفيّة الذي يسمح للنخب الطائفيّة بالسيطرة على معظم الموارد وإعادة توزيعها وفق منطق الزبائنيّة الاجتماعيّة أحد المداخل الأساسيّة للتفاوتات الاجتماعيّة والاقتصاديّة الحادة.

وثالثا ، اعادة احياء دور الدولة في الاقتصاد والذي ادى ضموره الى تغييب مفهوم دولة الرعاية وسياسات إعادة توزيع الدخل والثروة.

ورابعا ، تطبيق قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص ، بحيث يمكن اطلاق مشاريع استثمارية متوسطة وكبيرة ، تؤمن آلاف فرص العمل سنويا .

وخامسا اعادة النظر في السياسة الضريبية بحيث تؤخذ اموال الضرائب من حيث هي موجودة ، وليس من المفلسين والفقراء ، وبالنسبة للضرائب على الريوع و​الودائع​ المصرفية ، ينبغي النظر في حجم هذه الاموال ، وعدم مساواة المدخر الصغير مع ​حيتان​ المال .

وسادسا، تشجيع المصارف ، ان لم نقل الزامها ، على ​اقراض​ اصحاب ​المشاريع الصغيرة​ ، والاستثمار فيها بفعالية ، لان من شأن ذلك ، اعادة احياء الطبقة المتوسطة ، التي قضي عليها منذ سنوات طويلة .