سنغافورة​... هي جزيرة صغيرة بلا موارد أو إمكانات أو ثروات، حصلت على استقلالها في الستينيات. يصل عدد سكانها إلى خمسة ملايين تقريباً، وهم خليط من من الصينيين والملايويين والهنود وآسيويين بالإضافة إلى الأجانب الوافدين للعمل أو للدراسة. وتجمع الدولة الثالثة فى العالم من ناحية الكثافة السكانية خليطا من الديانات المختلفة، البوذية والمسيحية والإسلام والطاوية والهندوسية بالإضافة إلى اللادينيين الذين يمثلون النسبة الثالثة بعد نسبة البوذيين والمسيحيين.

على يد "الدكتاتور الرشيد" لي كوان يو، صاحب مقولة "البقاء للأكفأ"، تحوّلت هذه الجزيرة التي كانت مليئة بالحشرات إلى واحدة من أهم الاقتصاديات فى العالم فأصبحت الآن الدولة الأكثر سيطرة على الفساد والأعلى من حيث امتلاك احتياطيات النقد الأجنبي ودخول الأفراد والبنية التحتية والمواصلات الأكثر تطورا وحداثة.

في المقابل، ​لبنان​ هو دولة حصلت على استقلالها في الأربعينيات، وبعد 75 عاماً من الإستقلال، هذه هي الإنجازات التي حققها: في القرن الواحد والعشرين لا يزال المواطن يعيش وبشكل طبيعي مع "تقنين" الكهرباء، أكثر من 30% نسبة البطالة، فيضانات "مجرورية" في العاصمة سببها اعتداء حيتان المال على الأملاك العامة دون حسيب أو رقيب، مياه تحتوي على البراز، تحويل مياه الصرف الصحي الى مياه البحر،المرتبة الأولى بين دول غرب آسيا لناحية الإصابات بمرض السرطان، أزمة أدوية، مواطنون يموتون على أبواب المستشفيات، "بلطجة" على طرقات تملأها النفايات، أحكام البراءة لرجال قتلوا زوجاتهم...والكثير الكثير من حالات الفساد بعد.

في هذه المناسبة السعيدة، لا بد لنا أن نسأل أنفسنا: هل يجب أن نعتاد على هذا الواقع ونعيش معه إلى الأبد؟ كيف لشعب أن يقدّس جلاّده كل هذه الفترة؟ ما الأعظم الذي قد يأتي بعد؟ للحديث حول هذه المواضيع كان لـ"الإقتصاد" هذا اللقاء مع الباحث الإقتصادي د. حسن خليل:

- كبلد عمره 75 سنة من الإستقلال كيف تصف تجربة لبنان في الإقتصاد؟

تجربة لبنان في الإقتصاد كتجربته في السياسة. الإستقلال أساسه حرية رأي وحرية قرار، وفي لبنان ليس هناك حرية قرار، الطبقة السياسية "تركّب" القوانين بحسب مصالحها الشخصية كقانون الإنتاخابات الذي ضمن لكل واحد منهم الحد الأدنى من طموحه.

في التاريخ وفي الحاضر، لم يكن في لبنان قامات وطنية حقيقيةالا قلةقليلة. وعندما ظهرت هكذا قيادات مثل رئيس الجمهورية الأسبق الجنرال فؤاد شهاب تبنّوه "الموارنة" كما فعلوا مع جبران خليل جبران، وكذلك تبنى الاقطاع الشيعي حسن كامل الصباح. لبنان وُلد بطريقة غير صحيحة وحُكم بطريقة غير صحيحة ولازال مستمراً بهذه الطريقة. في كل مرحلة تحكمه فئة من الزعامات التي تديره على أساس مصالحها الشخصية وترهنه للخارج. لم يشعر اللبنانيون يوماً من الأيام بأن لبنان مستقلّ.

لا شك أن لبنان كان يتمتّع بقوانين مالية سليمة ووضع اقتصادي من الأعظم عالمياً وليس عربياً، تم تدمير ذلك في الحرب الأهلية عام 1975. ومنذ نهاية الحرب، لبنان قائم على اقتصاد مزيّف دُمّرت فيه القطاعات الإنتاجية من زراعة وصناعة ومؤخراً تم تدمير قطاع الخدمات، كما تراجعت السياحة أولاً بسبب تطور العلاقات مع دول الخليج وثانياً بسبب تدمير البيئة.

اليوم، بات من الصعب النهوض بالإقتصاد اللبناني دون تغيير بنية النظام السياسي، نحن في مرحلة نصف انهيار اقتصادي. آلاف المؤسسات والمعارض والشركات تقفل أبوابها، البطالة ترتفع والقوة الشرائية في هبوط مستمر، وحالات الجوع ترتفع.

- تحدّثت في مقطع صوتي تم تداوله على مواقع التواصل الإجتماعي عن الإنهيار الإقتصادي، في حال تم تشكيل الحكومة ولو بالمعايير اللبنانية المعهودة، ما هي برأيك الخطوات الأولية التي يجب اتخاذها لمنع هذا الإنهيار؟

أي تشكيلة حكومية قائمة على توزيع الحصص بين القوى السياسية القائمة لن تغيّر في الوضع شيئاً وأي إجراءات تتخذها هذه القوى السياسية مدّعيةً أن هدفها تغيير الواقع الإقتصادي يُعتبر ممارسة لفعل النفاق. لبنان وصل الى ما وصل اليه اقتصادياً بسبب هؤلاء. أي تنسيق اقتصادي لخلق فرص عمل أو دعم القطاعات الإنتاجية لا يمكن أن يحصل دون الإصلاح المالي، المالية العامةتمثّل الورم السرطاني في هذا البلد. دون إجراءات توقف هذا النزيف المالي فإن لبنان سيتجه لإنهيار يضرب آخر مقومات العيش فيه من: الودائع، الضمان الإجتماعي، و​القطاع المصرفي​. هذه القطاعات الثلاث هي التي تشكّل أسس المناعة الأخيرة المتبقية في الوضع المالي اللبناني.

هذه الطبقة السياسية كانت في حالة سكر والآن استيقظت، إلا أن جبروتها وغرورها لا يسمحان لها بالتخلي عن مصالحها وقول "كفى...لنقوم بتشكيل حكومة طوارئ".

الإنهيار المالي آتي لا محال، ما يمنعه فقط هو قرار غربي بالمحافظة على لبنان لخطورة الوضع الجيوسياسي في المرحلة الحالية.

تحدّثت أيضاً عن قيام المصرف المركزي بوظائف ليست من مسؤوليته، ولكن ألا تعتقد أن تسلّم المركزي هذه الملفات أفضل من تسلّم دولة فاشلة لها؟

أفضل نعم، ولكن ذلك يعني أنه لم يعد هناك دستور وقوانين تحكم لبنان. عندما يضطر البنك المركزي أن يتبنى شركة طيران "الشرق الأوسط" وأن يحصل على حصة من "إنترا" وأن يموّل قانون 331 المتعلق بإقتصاد المعرفة بالإضافة الى تولّي قروض الشركات الصغيرة والمتوسطة، فإنه بذلك بات وزارة المالية ووزارة الإقتصاد والهيئة العامة للإستثمار والصندوق الوطني للضمان الإجتماعي.

هذا نظام قائم على منظومة الودائع: "أرسلوا الدولارات من الخارج...إرفعوا الفوائد...خفّضوا الفوائد". دولارات المغتربين باتت تموّل الفساد، لولا ودائع المغتربين لما تمكّن البنك المركزي من إنقاذ مصارف من الإنهيار كي لا يتأثرالقطاع المصرفي اللبناني. لا يمكننا البقاء على هذا النهج، هذا النظام لا بد أن ينهار.