بين الظروف التي عصفت بلبنان إقتصاديًا وماليًا منذ إنتهاء الحرب الأهلية والأزمة الحالية التي تعصف بالمالية العامّة، يحقّ للمراقب السؤال عن أداء ​مصرف لبنان​ ومعرفة إذا ما كان نجح بكل مهامه الموكلة له بموجب القوانين المرعية الإجراء كما ووجهة النظرة الإقتصادية في هذا الأداء.

أُنشئ المصرف المركزي في لبنان بموجب قانون "النقد والتسليف وانشاء المصرف المركزي" في العام 1963. ونصّت المادّة 70 منه والمّعدّلة بقانون (1973) على مهمة المصرف بـ "مهمة المصرف العامة هي المحافظة على النقد لتأمين اساس نمو اقتصادي واجتماعي دائم". وحدّدت المادّة بشكّل صريح المهام التي تدخل ضمن هذه المُهمّة العامّة بـ : (1) المحافظة على سلامة النقد اللبناني، (2) المحافظة على الاستقرار الاقتصادي، و(3) المحافظة على سلامة اوضاع النظام المصرفي.

حقوق وواجبات المصرف المركزي

وضع قانون "النقد والتسليف وانشاء المصرف المركزي" قيود وواجبات على المصرف المركزي وأعطاه حقوق تُحدّد مسار عمله والأدوات التي يمتلكها للقيام بمهامه. فعلى سبيل المثال، نصّت المادة 69 من هذا القانون على أن يُبقي المصرف في موجوداته أموالًا من ذهب وعملات أجنبية تضمن سلامة تغطية النقد اللبناني توازي 50 أقلّه من قيمة النقد الذي يُصدره. وألزمت المادّة 71 المصرف بالتعاون مع الحكومة وتقديم المشورة لها في السياسة المالية والإقتصادية بغية تأمين الإنسجام بين مهمته وأهداف الحكومة. وأعطت المادّة 72 الحق للمصرف أن يقترح على الحكومة التدابير التي يراها مناسبة لتدعيم ميزان المدفوعات وحركة الأسعار والمالية العامّة والنمو الإقتصادي.

وتبقى المادّة 75 من هذا القانون المصدّر الأساسي للعمل المصرف بشأن ثبات القطع، إذ نصّت على أن يستعمل المصرف الوسائل التي يرى من شأنها تأمين هذا الثبات وأعطته حرّية العمل في السوق. وكذلك فعلت المادّة 76 التي نصّت على إعطاء المصرف المركزي الحقّ بالإبقاء على الإنسجام بين السيولة المصرفية وحجم التسليف وبين مهمته الرئيسية المنصوص عليها في المادّة 70 من خلال شراء وبيع السندات في السوق الحرّة وتعديل معدّلات الحسم وحدوده القصوى كما ومعدّلات الإعتمادات الممنهوحة للمصارف. أيضًا ألزمت المصارف التجارية وضع إحتياط إلزامي لدى المصرف المركزي وتركت لهذا الأخير حق تثبيت النسبة إلى حجم التسليفات وقبول ودائع لقاء فوائد يُحدّدها المصرف المركزي.

وأعطت المادّة 79 الحقّ للمصرف المركزي بالتأثير على التسليف بالشكل الذي يراه مناسبًا (حجم التسليف بحسب القطاعات أو لأغراض معيّنة). كما أجازت المادّة 81 للمصرف المركزي شراء وبيع وإستيراد وتصدير الذهب وسائر المعادن الثمينة وقبول الإيداعات من هذه المعادن وإصدار شهادات إيداع، وبيع وشراء سندات تجارية ووسائل دفع وإقراض المصارف المركزية والمصارف والمؤسسات المالية وأن يستقرض منها لآجال قصيرة على أن تقتصر هذه العمليات على القطاع العام، المصارف والمؤسسات المالية المُقيمة في لبنان، المصارف المركزية والمصارف والمؤسسات في الخارج والدولية (مادّة 82). وسمحت المادّة 85 للمصرف بإقراض القطاع العام كما وتسهيلات للخزينة العامّة (مادة 88) على أن لا تتجاوز الـ 4 أشهر.

أمّا المادّة 91 فقد نصّت على أنه في ظروف إستثنائية الخطورة، يُمكن للحكومة الطلب بالإستقراض من المصرف المركزي. هذا الأمر المُخالف للنظرية الإقتصادية، فهمه المُشرّع حيث أعطى للحاكم الحقّ بطرح حلول بديلة مثل إصدار سندات أو قرض أو إجراء توفير في الإنفاق العامّ أو حتى طرح ضرائب جديدة. وأضاف المُشرّع أنه وفي حال لا يوجد أيّ حلّ أخر وإذا ما أصرّت الحكومة يُمكن في هذه الحالة إعطائها القرض على أن لا تتعدّى الـ 10 سنوات (مادّة 94) مع إلزامها بالتدابير التي من شأنها الحدّ من التداعيات السلبية على النقد والقدرة الشرائية. بالطبع أعطت المادّة 93 الحق للمصرف بقبض فوائد على هذه القروض وعلى التسهيلات المُقدّمة.

أمّا أرباح المصرف المركزي، فقد نصّت المادّة 113 من القانون على أن يتقاسمها بالتساوي مع الخزينة العامّة وتُصبح 20% للمصرف المركزي و80% للدوّلة في حال بلغ الإحتياط العامّ نصف رأسمال المصرف.

الحكم على أداء المصرف المركزي من خلال القوانين

إن ما تقدّمنا به أعلاه هو قسم من أهمّ حقوق وواجبات المصرف المركزي، وبالتالي فإن الحكم على أداء المصرف المركزي يتمثّل بتقييم مدى إمتثاله للنصوص القانونية الآنفة الذكر. وبالنظر إلى أداء المصرف المركزي يُمكن للمراقب أن يرى أن المصرف المركزي لم يُخالف أي نصّ قانوني، فعلى سبيل المثال، إنتقد العديد من الأشخاص الهندسة المالية التي قام بها مصرف لبنان في العام 2016 لكن البحث في طبيعة العمليات القانونية لهذه الهندسة، نرى أنه لم يُخالف أي من المواد المنصوص عليها بل إلتزم بنصّ المواد 69، 70، 75، 79، 81، 82، 85، و93 بحرفيتها حيث أن كل الخطوات التي قام بها تدخل ضمن الصلاحيات التي أعطاها له القانون في هذه المواد. أيضًا ينتقد العديد من الأشخاص رفع الفوائد الذي تشهده الأسواق حاليًا، لكن هذا الإجراء يدخل في صلب الصلاحيات التي أعطاها القانون للمصرف المركزي وخصوصًا البند الثالث من المادّة 33 والتي تنص على أن المصرف يُحدد على ضوء الاوضاع الاقتصادية معدل الحسم ومعدل فوائد تسليفات المصرف ويتذاكر في جميع التدابير المتعلقة بالمصارف.

بالطبع هذه الأمثلة هي عينة عن ألالاف العمليات التي يقوم بها المصرف المركزي سنويًا والتي يُظهر تحليلها أنها تلتزم النصوص القانونية حرفيًا.

الحكم على أداء المصرف المركزي من خلال النظرة الإقتصادية

نصّت المادّة 70 من قانون "النقد والتسليف وانشاء المصرف المركزي" على أن المهّمة الأساسية للمصرف المحافظة على النقد، وهذا ما فعله المصرف المركزي. فعلى الرغم من كل الظروف الإستثنائية التي عاشها لبنان منذ العام 1997 (تاريخ تثبت سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي)، لم تتغيّر قيمة النقد وهذا أكبر مثال على قيام مصرف لبنان بمهمّته الأساسية على أكمل وجه. وما هو أهمّ من الحفاظ على قيمة النقد خصوصًا أن 750 ألف موظّف في لبنان يقبضون أجورهم بالليرة اللبنانية؟ أليس في هذا حفاظ على الأمن الإجتماعي للمواطن اللبناني؟

أيضًا عمد مصرف لبنان ومنذ العام 2009 إلى تقديم تسهيلات إلى بعض القطاعات الإقتصادية والتي أمّنت الإستقرار الإقتصادي والإجتماعي للعديد من الأسر والشركات حيث ومنذ العام 2013 قام المصرف بدعم القطاعات الإنتاجية بمليار دولار أميركي سنويًا منها 61% للقروض السكنية. ولم يتوارى المصرف المركزي من المحافظة على القطاع المصرفي كما تنصّ عليها المادّة 70، حيث أن تنظيم هذا القطاع دفع به إلى المراتب الأولى في مصاف المصارف العالمية.

وبالعودة إلى الهندسة المالية للعام 2016، نرى أن الأهداف التي حققتها هذه الهندسة لها تداعيات إيجابية على كل ما هو منصوص عليه في القانون ولكن الأهم أنها تصبّ في مصلحة الإقتصاد اللبناني:

الأول – تدعيم إحتياط مصرف لبنان من العملات الأجنبية وذلك بهدف تدعيم ثبات الفوائد وهو أمر أساسي لتحفيز النمو الإقتصادي. وقد بلغ حجم إحتياط المصرف المركزي 41 مليار دولار أميركي بعد هذه الهندسة مما يؤمّن ثبات لليرة اللبنانية وبالتالي يحمي أكثر من 750 ألف موظف في لبنان يقبضون أجرهم بالليرة اللبنانية.

الثاني – تدعيم رأس مال المصارف التجارية من خلال مُساعدتها على الإلتزام بالمعايير الدولية ( Basel IIIو IFRS 9 ) وهذه إحدى أهمّ مهام مصرف لبنان أي الحفاظ على النظام المصرفي.

الثالث – رفع السيولة بالعملة المحلّية وذلك بهدف تلبية الطلب الداخلي للقطاعين العام والخاص وبالتالي زيادة القروض للقطاع الخاص بالدرجة الأولى.

الرابع – تحصين هيكلية الدين العام اللبناني عبر خفض كلفة الإقتراض. وقدّ أدّت الهندسة المالية التي قام بها مصرف لبنان إلى خفض الفوائد على سندات الخزينة (5 سنوات) من 6.74% إلى 5% كما وخفض الفائدة على سندات الخزينة على الآمد البعيد بالليرة اللبنانية (وهي أساسية في دفع الدولة أجور القطاع العام) من 9% إلى 8.4%..

الخامس – تحسين ميزان المدفوعات من عجز في بقيمة 3.35 مليار دولار أميركي في العام 2015 وعجز بقيمة و1760 مليار في الأشهر الخمسة الأولى من العام 2016 إلى فائض بقيمة بقيمة 1.24 مليار دولار أميركي في نهاية العام 2016.

السادس – الحفاظ على مستوى مقبول من التضخّم (أقل من 4% في العام 2016) وذلك رأفة بالنمو الإقتصادي الحقيقي كما والقدرة الشرائية للمواطن.

السابع – دعم التصنيف الإئتماني من خلال ميزان المدفوعات الذي تستخدمه وكالات التصنيف بشكل أساسي لخفض أو رفع التصنيف الإئتماني للدول.

أما على صعيد إرتفاع الفائدة حاليًا في الأسواق، فإن النظرة الإقتصادية واضحة حيث أنه وبغياب رفع للفائدة فإن التضخّم الناتج عن سلسلة الرتب والرواتب كما إرتفاع أسعار النفط كان ليُطيح بالنمو الإقتصادي ويؤثّر سلبًا على الليرة اللبنانية ويضرب القطاع المصرفي، ويزيد من البطالة وبالتالي تردّي الوضع الإجتماعي. إننا نرى أن هذا الإجراء هو أساسي بإنتظار أن تعمد الحكومة إلى البدء بتطبيق مشاريع وإصلاحات مؤتمر سيدر 1 والتي وحدها كفيلة بخفض سعر الفائدة عبر النمو الإقتصادي.

من هذا المُنطلق، نرى أن أداء مصرف لبنان هو الأداء الأمثل في ظل إستمرار العجز في الموازنة وغياب الثبات السياسي ونعتبر أن أي تغيير في السياسة النقدية المُتبعة حاليًا في ظل إستمرار العجز يعني إنهيار سعر صرف الليرة وبالتالي كارثة إجتماعية وإقتصادية أكيدة.