في ​الحروب​ التجارية التي تخوضها الادارة الاميركية برئاسة ​دونالد ترامب​ ضد بقية دول العالم، ما يذكرنا ب​توازن​ الرعب ​النووي​ الذي كان قائما ايام ​الحرب الباردة​ ، والذي يستمر باشكال جديدة اليوم، وان بحدة اقل . فالتهديد النووي الذي كان يلوح بها قطبا العالم آنذاك ، ​الولايات المتحدة​ الاميركية والاتحاد السوفياتي، كان لمجرد التهويل ، لانهما كانا يعرفان ان اي حرب مماثلة ستؤدي الى خسارة الجميع ، والى نهاية البشرية.

اليوم تلوح في الافق حرب ​مالي​ة عالمية شعواء ، بسبب الغطرسة الاميركية ، واستسهال نقض الاتفاقات ، ودك اسس ​التبادل التجاري​ القائمة بين الدول ، وهو ما تعبر عنه اجراءات ترامب المتتالية بفرض رسوم مرتفعة على الصادرات الاجنبية والتي طالت الصين والاتحاد الاووربي خصوصا، بالاضافة الى سياسة العقوبات الاقتصادية على خلفيات سياسية ، وابرز مثال ​روسيا​ و​ايران​ و​فنزويلا​ .. وربما ​السعودية​ على الطريق.

ومع بدء الاجراءات العقابية الترامبية بدأ الحديث عن وقف الدول الكبرى الاستثمار في ​سندات الخزينة​ الاميركية ، وبكلام آخر وقف ​اقراض​ حكومة ​الولايات المتحدة الاميركية​ ، وجاء التحذير الاهم من الصين اكبر الدائنين ، والتي تستحوذ على سندات اميركية بقيمة 1.165 ترليون دولار ، ولكن التنفيذ جاء من روسيا ،التي قلصت في شهر آب الماضي، كما ذكرت وزارة الخزانة الاميركية امس ، استثمارها في ​السندات الأميركية​ لتصل إلى 14 مليار دولار، بعد أن تخلّصت في نيسان من 47.5 مليار، وفي ايار من 33.8 مليار.

وانخفض حجم الاستثمار الروسي في السندات الأميركية إلى أدنى مستوى له منذ 2007، وبذلك خرجت روسيا من قائمة الدول الـ33 صاحبة أكبر توظيف فيها، بعد أن كانت تستثمر 96.1 مليار دولار في هذه السندات نهاية 2017.وقد اعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ان بلاده ستقلص اكثر مساهمتها في هذا السوق .

هذا الانسحاب لن تكون له انعكاسات دراماتيكية على ​الاقتصاد الاميركي​ ، لان روسيا كانت في الاساس في مرتبة متأخرة للائحة المستثمرين في السندات الاميركية ، مثلها مثل ​تركيا​ التي سبق لها الانسحاب من السوق الاميركي . ولن يتأثر الاميركيون كذلك من انسحاب السعودية التي تبلغ استثمارتها 166 مليار دولار ، فما يخشاه الخبراء والمؤسسات الدولية هو انسحاب دول عظمى اقتصادي مثل الصين و​اليابان​ ، او تقليص استثماراتهما ، والذي قد يؤدي الى نتائج كارثية على ​الاقتصاد العالمي​.

المعروف ان الصين الدائن الاول للولايات المتحدة ، لا تستحوذ على هذه النسبة من السندات الأميركية لأنها استثمار جيد، أو بهدف دعم الاحتياطي النقدي وفقط، ولكنها لجأت إلى هذه السياسة لأهداف تجارية بحتة ، ففي ظل وجود فوائض مالية هائلة ناتجة عن انتعاش صادراتها خلال السنوات الماضية، تستثمر الصين النسبة الأكبر من هذه الفوائض في السندات الأميركية ، وذلك بهدف المحافظة على معدل منخفض لسعر صرف عملتها، وهو ما يسهم في دعم تنافسية صادراتها.

وتقوم الصين بهذا الأمر من خلال شراء ​البنك المركزي الصيني​ لمعظم ​الدولار​ات التي تدخل بلاده، ثم يتم إعادتها إلى السوق الأميركية مرة أخرى من خلال ​شراء السندات​، وهو ما يحافظ بالتالي على قيمة عملتها المحلية منخفضة مقابل الدولار، وهذه السياسة دائمًا ما كانت نقطة خلاف بين البلدين.

هذه السياسة ظلت مجدية حتى وصول ترامب الذي بدأ يظهر تعاملا أكثر حدة بشأن هذا الأمر ، على الرغم من التباين مع وزارة الخزانة الاميركية في هذا الشأن. فالأميركيون طوال السنوات الماضية كانوا يكتفون بالتنديد بالتلاعب الصيني بالعملة، دون اتخاذ إجراء واضح يحد من تجارتهم الخاسرة مع الصين، ويوقف تمدد ​الفائض التجاري​ الضخم بين البلدين، والذي وصل إلى ذروته في عام 2017، اذ بلغ اعلى مستوى على الإطلاق مسجلًا 275.81 مليار دولار، وهذا الرقم ​شديد​ الحساسية بالنسبة للبلاد، وهو الأمر الذي يجعل ترامب يسعى بقوة لعلاج هذا الخلل بفرض تعريفات جمركية مرتفعة على البضائع الصينية . الامر الذي وصفته ​بكين​ بانه اعلان حرب تجارية .

هل سترد الصين باسترداد استثماراتها الهائلة في الولايات المتحدة ، وهل تنسحب من سوق سندات الخزينة الاميركية؟

المسألة معقدة أكثر مما تبدو. ففي مطلع العام الجاري المح مسؤولون صينيون الى امكانية مراجعة حيازات البلاد الكبيرة من ​النقد الأجنبي​ ، وأوصوا بإبطاء ​مشتريات​ سندات الخزانة الأميركية، أو وقفها، إلا أن "إدارة الدولة للنقد الأجنبي" ،( الهيئة المعنية بتنظيم سوق الصرف الأجنبي في الصين) نفت هذا الأمر حينها، موضحة أن هذه الأخبار تستند إلى معلومات خاطئة وزائفة.

ولكن في منتصف اذار الماضي كشفت بيانات وزارة الخزانة الأميركية عن تراجع الاستثمارات الصينية في السندات الأميركية، لتهبط إلى أدنى مستوياتها في ستة أشهر، فهل ستتابع الصين هذا التقليص ، وما هي حدوده ، وما هي تاثيراته السلبية على المالية الاميركية؟

هنا نعود الى مثال توازن الرعب النووي ، لان ما يجري اليوم هو تكريس توازن رعب مالي ايضا، يحول دون اندلاع الحرب الشاملة .

الصين تشتري السندات لدعم مصالحها التجارية، ما يعني أن تخليها عن هذه السندات سيضر مصالح بكين أيضًا طالما أنها تتبع سياسة ​اليوان​ الضعيف لزيادة صادراتها وهي اذا فتحت المجال لعملتها للصعود، تستطيع التخلي عن السندات الأميركية، وستكون نتائجه كارثية بالنسبة للولايات المتحدة ، إذ ستضع البلاد في مأزق مع ديونها الهائلة، وهبوط حاد للدولار سيزعزع استقرار الاقتصاد، بالإضافة إلى الإضرار بثقة المستثمرين في ​الاقتصاد الأميركي​، ما يجعل واشنطن عاجزة أمام تمويل ​عجز الموازنة​ الضخم لضعف الطلب على سنداتها بخروج الصين من السوق، لكن في المقابل فان هبوط الدولار سيكون إيجابيًا بالنسبة للصادرات الأمريكية، وسيضعف من صادرات الصين في النهاية بسبب ارتفاع تكلفة ​المنتجات الصينية​. ولان ​الاقتصاد الصيني​ يعتمد على التصدير، فإن خيار التخلي عن السندات ليس هو الخيار الأمثل لبكين، لذا سيكون للطرفين نصيب كبير من الخسائر.

كما أن التخلي عن هذه السندات ليست بالسهولة التي يتصورها البعض، فقد يحتاج إلى مدة طويلة في حال انتظرت الصين حتى انتهاء آجال السندات التي قد تصل الى عشر سنوات حتى لا تتعرض لخسائر كبيرة ، إذا قررت عرضها للبيع في السوق، وهي سياسة مستبعدة.

في المقابل فان إقدام الصين او دول بحجمها (مثل اليابان ثاني الدائنين ) على بيع ما تمتلكه من سندات خزانة في السوق سيؤدي إلى زيادة المعروض منها، وبالتالي ارتفاع عوائدها بشكل حاد، مما سيرفع كلفة الاقتراض على المستهلكين الأميركيين، سواء بالنسبة لقروض الرهن العقاري أو لاهداف أخرى ، كما ستزيد تكلفة الفائدة التي تسددها الشركات المدينة للبنوك الأميركية.

لا يمكن التنبوء بمدى تطور هذه الحرب الناعمة بين الولايات المتحدة الاميركية وسائر الدائنين لها ، وخصوصا في سوق السندات . ولكن الأسواق المالية العالمية تتعامل بحساسية شديدة مع الامر ، سواء من ناحية هبوط وصعود عوائد سندات الخزينة الاميركية، أو من ناحية التوقعات بتخلي الصين او غيرها ، عن وضعها ضمن أولوياتها في الشراء، وهو الأمر الذي حدث عندما لوحت الصين بخفض حيازتها للسندات فاهتزت أسواق العالم، و​تراجع الدولار​ بقوة، وهو ما يعني أن مثل هذه التحركات لن تكون نتائجها سلبية على الاقتصادين الاميركي والصيني فقط، بل سيتضرر اقتصاد العالم ككل.

اما اذا توالت الانسحابات الدولية من سوق سندات الخزينة الاميركية فسيؤدي ذلك الى تخفيض المؤسسات الدولية المختصة ​التصنيف الائتماني​ للولايات المتحدة الاميركية الذي سيتضرر اقتصادها بشكل جدي ، ولكن ستغرق اقتصادات كل ​الدول الدائنة​ لها ، والاقتصاد العالمي ككل.