عقدت هذا الاسبوع قمة كورية جنوبية – شمالية هي الثالثة هذا العام ، ونجحت في تحقيق ما يشبه اعلان نهاية الحرب بين شطري كوريا بعد عقود طويلة من النزاع .

واذا كان الاهتمام بنتائج محادثات الرئيسين الجنوبي مون جاي إن، والشمالي كيم جونغ أون ، قد تركز على موضوع نزع ​السلاح​ ​النووي​ الكوري الشمالي، فان الجانب ال​اقتصاد​ي من المباحثات تم التكتم عنه ، ربما تجنبا لاغضاب ​الولايات المتحدة​ الاميركية ، التي تتواجد قواتها في الشطر الجنوبي من كوريا ، وهي شريك كامل مع هذا البلد ، سياسيا وعسكريا واقتصاديا ، ونظرا لانها تشترط تحقيق تقدم ملموس في موضوع انهاء البرنامج النووي الشمالي قبل البحث في رفع ​العقوبات​ عن بيونغ يانغ والتي تخنق اقتصادها حتى الموت .

في الجانب الاقتصادي، ورد في الاعلان المشترك للقمة الاخيرة الاتفاق على اجراءات محدودة مثل إعادة ربط السكك ​الحديد​ية والطرق بين الجانبين في الشرق والغرب خلال العام الحالي، واستئناف مشروعَي مجمع كيسونغ الصناعي ، و​السياحة​ إلى جبل كومكانغ، وإجراء التشاور لبناء منطقة اقتصادية مشتركة في البحر الغربي ومنطقة السياحة المشتركة في البحر الشرقي.

ولكن الرئيس الكوري الجنوبي قال بعد عودته الى سيول انه بحث مع نظيره الشمالي امورا كثيرة لم ترد في البيان الرسمي ، وانه سيطلع ​الرئيس الاميركي​ دونالد ​ترامب​ على فحوى محادثاته الشهر المقبل في ​نيويورك​.

المعروف ان ​الوضع الاقتصادي​ المتردي ل​كوريا الشمالية​ هو السبب الرئيسي لتراجعها عن موقفها العدائي من جارتها الجنوبية ، وسلوك درب السلام ، بعد استرضاء الولايات المتحدة . وقد كان لافتا أن تسبق هذه القمة الثالثة زيارة وفد اقتصادي كوري جنوبي كبير إلى بيونغ يانغ، ضم في صفوفه رؤساء عمالقة شركات الإلكترونيات في سيول، فضم الوفد 93 عضوا، ابرزهم نائب رئيس شركة "سامسونغ" لي جيه-يونغ، ورئيسي مجموعة "إس كي" تشوي تيه-وون، و"إل-جي" كو كوانغ-مو، ونائب رئيس شركة "هيونداي-موتور" كيم يونغ-هوان وآخرين.

ولا يخفى ما لهذه الشركات العملاقة من دور اقتصادي يمكن ان تلعبه في انعاش الاقتصاد الكوري الشمالي ،لا سيما وان المباحثات التي اجريت شملت نوايا افتتاح فروع للمصانع الكورية الجنوبية في الشطر الشمالي ، واقامة شراكات استراتيجية ، للاستفادة من اليد العاملة الرخيصة في هذا الشطر ، وتوسيع اسواق الشركات الجنوبية العملاقة .

المعروف ايضا ان كوريا الشمالية خاضعة لقرار مجلس الامن الدولي رقم 2371 الذي يحظر عليها تصدير ​الفحم الحجري​ والحديد الخام وموارد ​معدنية​ أخرى، كتدبير لحمل بيونغ يانغ على التخلي عن البرامج النووية والصاروخية. وعلى الرغم من وجود الكثير من الخروقات لنظام العقوبات ، ومن شركات كورية جنوبية بالذات وبمساعدة روسية ، فان عمليات التصدير توقفت تقريبا ما حرم ​بوينغ​ يانغ من ايرادات بعشرات مليارات الدولارات سنويا .

وفي العام 2017 تعرضت كوريا الشمالية لضربة قاصمة بعدما انضمت ​الصين​، وهي الشريك الاقتصادي الأول لها، الى الدول الملتزمة بالعقوبات الدولية منذ تشرين الأول الماضي. وقد أدى تراجع الصادرات الكورية الشمالية إلى الصين بـ37% إلى انخفاض النمو بنحو 2%، وكانت الصين قد اشترت من كوريا الشمالية في عام 2016، نحو 23 مليون طن من الفحم بقيمة ملياري دولار.

كذلك تراجعت تجارة الصين مع كوريا الشمالية خلال الربع الأول من العام الحالي بنسبة 60% على أساس سنوي حيث بلغت 482.93 مليون دولار، وهو ما سيؤثر على معدل النمو فيها أيضا خلال العام الجاري.

لذا تقترن المباحثات الكورية - الكورية ، وفرص نجاحها بالجانب الاميركي ، الذي يمسك بيده سيف العقوبات وكذلك مفتاح مجلس الامن لرفعها ، وقد عقد ترامب ونظيره الكوري الشمالي قمة في سنغافورة في حزيران الماضي ، وصفها الجانبان بالناجحة جدا ، ولكنها لم تستكمل بعد ، لتشهد العلاقات بين البلدين عودة الفتور ، بذريعة اميركية ان بيونغ يانغ لم تبدأ فعليا بتفكيك منشآتها النووية .

مشكلة أخرى ستواجه ​التعاون الاقتصادي​ بين الشطرين تتعلق بطبيعة الاقتصادين القائمين منذ الحرب الكورية والانفصال ، فقد ذهبت كوريا الشمالية في جهة، و​كوريا الجنوبية​ ذهبت في جهة أخرى معاكسة.

كوريا الشمالية اعتمدت على النظام الاشتراكي الذي ينص على سيطرة الدولة على الاقتصاد. في حين ذهبت كوريا الجنوبية باتجاه اقتصاد السوق وتشجيع الاستثمار الأجنبي وأيضا بناء صناعات تنافسية قادرة على التصدير بشكل رئيسي، فاليوم تعادل الصادرات الكورية الجنوبية ما يقارب الـ 50% من ​الناتج المحلي​ الإجمالي.

بالمقابل، اعتمدت كوريا الشمالية على الحصول على الدعم من حلفائها، كالصين والاتحاد السوفييتي الذي مع انهياره تراجع الدعم الممنوح لكوريا الشمالية، وعانت أيضا في التسعينيات من العديد من ​الكوارث الطبيعية​ التي انعكست تداعياتها السلبية على اقتصادها، وركزت أيضا بشكل أو بآخر على ​الإنفاق​ العسكري الذي بات يشكل 25% من ناتجها المحلي، في حين يكاد لا يتجاوز الـ 3% في الاقتصاد الكوري الجنوبي.

الناتج المحلي الإجمالي لكوريا الشمالية بحسب آخر التقديرات يقدر بـ 17 مليار دولار فقط. في حين يبلغ حجم اقتصاد كوريا الجنوبية 1.411 تريليون دولار، وتحتل المرتبة الـ 11 على مستوى الاقتصادات العالمية.

حصة الفرد من الناتج تاريخيا كانت متشابهة، لكن شهدت اختلافا كبيرا خلال العقود الماضية، فحصة الفرد في بكوريا الشمالية تصل إلى 1200 دولار، في حين تبلغ ما يقارب 38 ألف دولار في كوريا الجنوبية.

بحسب آخر التقديرات في 2017 بلغت صادرات كوريا الجنوبية 552 مليار دولار، بينما سجلت صادرات كوريا الشمالية 3 مليارات دولارفقط ، أي أن كوريا الجنوبية تصدر بأكثر من 197 مرة من ما تصدره كوريا الشمالية.

الاستثمار الأجنبي المباشر​ تأثرت مستوياته في كوريا الشمالية نتيجة العقوبات المفروضة عليها، فبحسب آخر الإحصائيات بلغ 93 مليون دولار، في حين تجاوزت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر في كوريا الجنوبية حاجز الـ 12 مليار دولار في العام 2016.

إذا ما ذهبت كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية باتجاه تطبيع وتعاون ينتج عنه ما يسمى باتحاد شبه الجزيرة الكورية، بلا شك ستكون هنالك تكلفة كبيرة على كوريا الجنوبية تقدر بـ "تريليون دولار" نتيجة الحاجة إلى ضم الشعب الكوري الشمالي الذي يحتاج إلى كثير من المقومات والبنى التحتية.

لكن في المقابل تشير بعض الأرقام إلى أن كوريا الشمالية تحتوي على موارد طبيعية غير مستغلة تقدر بـ 9 تريليونات دولار، يضاف إليها أن السكان في فئة العمل في كوريا الجنوبية بدأوا في الانكماش في 2017 إلى 17 مليون عامل، وبالتالي فان إضافة دفعة من العمالة الكورية الشمالية تقدر بـ 36 مليون عامل إلى كوريا الجنوبية ستسهم في تنشيط اقتصادها.

ومع كل هذه العوامل إذا ما اتحدت الكوريتان، سيكون هنالك اقتصادا موحدا تقدر قيمته بما يقارب 8.7 تريليونات دولار بحلول العام 2050.

قبل الحديث عن ذلك ، ثمة تغيير بنيوي مطلوب في الاقتصاد الكوري الشمالي (الاشتراكي، او مركزية الدولة )، ليستطيع الانفتاح والتفاعل مع اقتصاد ليبرالي حر ، وقد بدأت بيونغ يانغ بالفعل خطوات في هذا السبيل ، اذ قررت الدولة السماح للشركات الخاصة وضع استراتيجيات علمية واستراتيجيات إدارية خاصة وضمان تحقيق أقصى فعالية في العملية الإنتاجية والأنشطة الإدارية حتى تؤدي دورها في تطوير اقتصاد الدولة عبر زيادة أرباحها.

وفسر المراقبون هذه الخطوة على أن السلطات الاقتصادية في بيونغ يانغ بدأت بتحفيز الشركات لتركيز أنشطتها الإدارية بشكل فعال وتحقيق الربحية، بدلا من الاعتماد بشكل كلي على التخطيط المركزي والإدارة الموجهة. وفي إطار تطبيق هذه الاستراتيجيات تمنح الشركات فرص للاستقلالية بشكل أكبر من حيث إدارة ومعالجة المشكلات الاقتصادية والمالية، التي تواجهها على صعيد عمليات الإنتاج.

هذه خطوة اولى لتحرير الشركات الشمالية لكن يبقى ضروريا ان تستكمل بالسماح لها باقامة شراكات مع نظيرتها الجنوبية ، ولو باشراف الحزب الحاكم ، تماما كما هو حاصل في الصين. لتنتقل كوريا الشمالية من عصر النزاع النووي الى عصر ​الالكترونيات​ الكورية الجنوبية.