الكل يعرف أن وضع الإقتصاد ال​لبنان​ي سيّء ومتردّي، وهناك من يقول أن المسار الإنحداري بات خطيراً، والكل يجيد توصيف الوضع الذي وصلنا إليه. ولكن ما هي الحلول؟ وكيف نحسّن وضع إقتصادنا ونحصّنه ؟

"الإقتصاد" إنطلاقاً من الحس الوطني، والحسّ بالمسؤولية، تعرض سلسلة أفكار أو لإجراءات إتُخذت أو يمكن إتخاذها من قبل مسؤول او وزير، أو من قبل الحكومة مجتمعة، من شأنها أن تحسّن الوضع الإقتصادي تدريجياً، أو على الأقل تساهم في وقف المنحى الإنحداري الذي يسلكه ​الإقتصاد اللبناني​.

إقتصادنا ريعي !!

لنبدأ من أن هناك مشكلة في هيكلية الإقتصاد اللبناني، فإقتصادنا هو إقتصاد ريعي وغير منتج، والإقتصاد الريعي يعتمد على قطاعات غير منتجة لتحقيق النمو كالقطاع الخدماتي مثلا، في حين أن القطاعات المنتجة الأخرى كالقطاع الصناعي والزراعي، هي قطاعات ضعيفة نسبياً.

والإعتماد على القطاعات غير المنتجة في تحقيق النمو يحتوي على نوع من المخاطرة الدائمة، فلا يوجد إستدامة او إستمرارية، ونسب النمو والعجلة الإقتصادية تتأثر مباشرة مع أي تغيّر على مستوى الإستقرار الامني في الداخل أو حتى في دول الجوار، خاصة ان الإقتصاد في هذه الحالة لا يكون إقتصاد مستقلّ، ويعتمد على إقتصادات الدول الأخرى. أضف إلى ذلك ان الإقتصاد الريعي ليس لديه القدرة على خلق فرص العمل المطلوبة مقارنة مع ما يمكن للإقتصاد المنتج ان يخلقه من فرص عمل.

فضلا عن أن الإقتصاد الريعي يحصر النمو بفئة معينة من الناس (طبقة معينة)، ولا يمكنه المساهمة في زيادة حجم الطبقة الوسطى في المجتمع، كما ان توزيع الثروات لا يكون عادلاً في نظام الإقتصاد الريعي.

لذلك فإن تغيير هيكلية إقتصاد لبنان ليس بالأمر السهل والبسيط، ويحتاج إلى وقت طويل، خاصة أن لبنان يعتمد على الإقتصاد الريعي منذ عشرات السنوات.

من أين تبدأ الحلول ؟

الخطوة الأولى تبدأ بوضع خطّة إقتصادية متكاملة، لتحديد رؤية لبنان الإقتصادية والتوجه الإقتصادي للدولة البنانية، والتي يجب ان تصب في إتجاه تحويل الإقتصاد من إقتصاد ريعي إلى إقتصاد منتج.

وهذا ما فعله وزير الإقتصاد رائد خوري في الفترة الماضية من خلال العمل على تسويق فكرة "ضرورة وضع خطة إقتصادية متكاملة" تُحدّد من خلالها رؤية لبنان الإقتصادية في السنوات المقبلة. فتم الإستعانة بشركة "ماكينزي" العالمية والتعاون مع عدّة دول شبيهة بلبنان من حيث حجم الإقتصاد وشكله، ولكن بنفس الوقت تم مراعاة خصوصية لبنان والمجتمع اللبناني والقيم التفضيلية لدى للبنانين، خلال وضع الخطة. وتمّ الخروج بخطة متكاملة، على أمل إقرارها في ​مجلس الوزراء​ الجديد.

أهمية الخطة الموضوعة:

أما أهمية الخطة الإقتصادية الجديدة فتكمن في انها أدخلت فكرة التخطيط إلى العقلية اللبنانية، حيث أن معظم العمل الذي تم في السنوات الماضية إفتقد للتخطيط السليم، وكان عملاً عشوائيا.

فلا يمكن النجاح بدون تخطيط، حيث أن غياب التخطيط يؤدي إلى إنعدام التنسيق بين الوزارات، فلا يوجد طريق وهدف واضح لتسير عليه كل الوزارات الإقتصادية، وبالتالي ولا يوجد إستمرارية في الحكم. فالوزراء الجدد ينسفون دائماً كل ما فعله الوزير السابق ويبدأون من جديد وفقا لرؤيتهم الخاصة وقناعاتهم.

بالإضافة إلى ذلك، فإن غياب التخطيط لا يشجّع المستثمرين ولا ​القطاع الخاص​ للدخول إلى السوق. فعدم وجود رؤية وتوجه واضح وتصميم حقيقي لدى ​الدولة اللبنانية​، لن يشجع على قدوم الإستثمارات إلى لبنان، وسيفضل المستثمر الإنتقال إلى مكان أخر أكثر اماناً وإستدامة. فإذا أردنا جذب القطاع الخاص والمستثمرين، يجب أن نبرهن لهم بأننا نمتلك خطة واضحة طويلة الامد، وعابرة للحكومات والوزراء المتعاقبين.

ومن خلال الخطة "ماكينزي" إستطاع الوزير رائد خوري إدخال مبدأ التخطيط إلى عقلية الطبقة السياسية الحاكمة.

مضمون الخطة:

مضمون الخطة واضح جدا ومفصّل، فخطة "ماكينزي" حددت أين يمتلك لبنان قيم تفضيلية في كل القطاعات. فهناك قطاعات في لبنان إنقرضت وتقلصت رغم وجود قيمة تفضيلية كبيرة لتلك القطاعات إذا ما تم تقديم الرعاية والحماية والتحفيز اللازم لها. وفي المقابل هناك بعض القطاعات التي لا نمتلك فيها أي قيمة تفضيلية، ومازلنا مصرين على دعمها والإبقاء عليها.

لذلك فإن ما تحاول الخطة فعله هو تصويب المسار، فلا يمكن الإستمرار بإنتاج بعض الزراعات مثلا بكلفة عالية جداً، وهناك صعوبة بالغة في تصدير هذه الزراعات وتسويقها في ​الأسواق العربية​ والاوروبية. والحل هو الإنتقال إلى زراعات بديلة تخفّض كلفة الإنتاج وتحسّن من وضع القطاع.

فكل بلد لديه نقاط قوّة ونقاط ضعف، لذلك علينا معرفة نقاط قوتنا ونقاط ضعفنا بشكل واضح ودقيق، وأن نعمل على إستغلال نقاط القوة لدينا لبناء قطاعات ناجحة وإقتصاد متين تميّزه الإستدامة والإستمرارية.

ما تلقي عليه الخطة الضوء أيضاً هو عجز ميزاننا التجاري، فهذا العجز يعدّ من المشاكل الكبرى في لبنان. فالناتج القومي للبلاد هو كناية عن: إستهلاك، إستثمار، نفقات الدولة، والصافي من التصدير والإستيراد.

وناتجنا القومي هو 52 مليار دولار تقريبا، في حين ان عجزنا التجاري (من خلال التصدير والإستيراد) هو 18 مليار دولار .. وهذا يعني أن عجزنا التجاري يساهم في خسارة 34% تقريبا من ناتجنا القومي ككل، وهذه الخسائر نحاول تعويضها من خلال ​تحويلات المغتربين​ السنوية التي تدخل إلى البلاد.

ولكن لا يمكن الإستمرار على هذه الحال، ويجب العمل على تقليص حجم العجز في ​الميزان التجاري​ بأسرع وقت ممكن، لأن الإستمرار على هذه الحال سيدخلنا في مشاكل كبيرة جدا. لذلك على الدولة و​الحكومة اللبنانية​ الجديدة أن تعي حجم هذه المشكلة، وان تعمل على إيجاد الحلول المناسبة وتطبيقها.

وفي هذا السياق،هناك أجراءات معينة يمكن اتخاذها دون انتظار القرار الحكومي ، خاصة ان الخلافات السياسية تؤخر عمل الحكومة وتُبطِئه،وهنا نذكر على سبيل المثال ما فعله وزير الاقتصاد رائد خوري مؤخرا حين سعى إلى حماية بعض السلع المحلية الصنع من خلال إتخاذ قرار بوقف إستيراد عدد من السلع التركية المدعومة، والتي تدخل إلى السوق اللبناني بكميات كبيرة. فهذه السلع تدخل إلى لبنان بأسعار زهيدة جداً لانها تتلقى الدعم من الدولة التركية، وهذا أمر مخالف للقوانين الدولية.

وهكذا خطوات تعتبر مهمة جداً إذا أردنا التحول فعلا إلى إقتصاد قوي ومنتج، والإجراء الذي إتخذه الوزير دفع بسفراء الدول الأخرى للتواصل مع وزارة الإقتصاد والإستفسار عن إمكانية إتخاذ إجراء مماثل ضدّهم، وهذا يحسّن من موقع لبنان التفاوضي لمحاولة تعديل الإتفاقات التجارية مع الدول الصديقة، وتقليص حجم ​العجز التجاري​.

لذلك يجب إجراء دراسة مفصلة عن السلع التي ننتجها والسلع التي نستورها للإستهلاك المحلي، وتصنيف هذه السلع، وإعادة النظر بكل الإتفاقات التجارية مع الدول الصديقة. فلا يجب أن نفاوض من موقع الضعيف، فنحن بلد صغير ولكننا سوق مهم بالنسبة للدول التي تصدّر إلى لبنان، ووارداتنا تصل إلى 20 مليار دولار، وبالتالي فإن الدول المصدّرة إلينا ليس من مصلحتها خسارة السوق اللبناني، وهي مضطرة إلى تحسين شروط الإتفاقات التجارية بيننا.

من جهة اخرى يجب أن نعمل على الجانب التحفيزي، فلا يكفي ان نأخذ إجراءات لحماية الإنتاج الوطني، بل يجب أيضا ان نعمل أيضا على تحفيز الإنتاج المحلي وتخفيض كلفة الإنتاج على المصانع.

ففي لبنان هناك عدّة مشاكل تؤدي إلى إرتفاع كافة ​الإنتاج الصناعي​ والزراعي، وعلى رأسها مشكلة ​الكهرباء​، إرتفاع أسعار الأراضي، وإرتفاع كلفة اليد العاملة. وبما ان مشكلة الكهرباء تحتاج إلى حل جذري، وكلفة اليد العاملة لا يمكن التحكم بها، تستطيع الدولة أن تخفف عن كاهل الصناعيين والزراعيين من خلال تقديم أراضي من المشاعات الموجودة، مقابل إيجار سنوي زهيد، وتحفيز بعض الصناعات القابلة للنمو ودعمها من خلال إصدار بعض القوانين التي تسمح بتخفيض فاتورة الكهرباء على المصانع المنتجة للسلع المطلوبة للتصدير، وتلك التي تعتبر مهمة للسوق المحلية، خاصة ان كلفة الطاقة في بعض الصناعات تشكّل 40% من الكلفة الإجمالية للإنتاج.

كل هذه نقاط والخطوات المذكورة أعلاه، يمكن إتخاذها والسير بها إذا كان هناك قرار سياسي حقيقي، وإرادة سياسية حقيقية، وتوجه إقتصادي واضح للدولة اللبنانية.

يتبع ...