السياسة تضرب من جديد فتصيب قطاع ​الكهرباء​ المتهاوي اصلا بضربات جديدة تزيد من معاناة المواطن المحروم من نعمة النور ، وتزيد من ناحية ثانية في تعميق الخلافات بين قوى الامر الواقع ، وتضاعف من جهة ثالثة من نفوذ وارباح ​مافيا​ المولدات.

رحلة ​الباخرة التركية​ الثالثة بين ​الجية​ والزهراني والذوق ، خير معبر عن واقع الحال . فقد رُفضت في المرفأ الاول ثم الثاني بذريعة ​التلوث​ ، وكأن البديل عنها في منطقتي الشوف والجنوب ، اي المولدات الخاصة ، صديقة للبيئة . في حين ان الدراسات تبين ان الانبعاثات من معامل الكهرباء الثابتة على الارض او العائمة في البحر ، تحت المراقبة والسيطرة ، في حين ان مئات والاف المولدات المملوكة من افراد وعصابات تعمل بلا حسيب ورقيب ، ولا احد يستطيع تقدير حجم الضرر البيئي التي تحدثه ، وخصوصا انها تعمل على المازوت الاحمر الاكثر تلويثا ، والاقل كلفة ، ما يزيد من ارباح المافيا المتحكمة بتوليد "كهرباء الاشتراك" .

ذريعة أخرى طرحت لمنع الباخرة التركية في الزهراني ، وهي انها ستشغل المكان الذي يخطط لبناء معمل جديد على الارض. وهنا مفارقة عجيبة ، فالباخرة سترسو على الشاطىء المقابل لمدينة الغازية ، وليس على ارضها !!

اما اذا كان الخوف من ان وجود الباخرة سيؤدي الى تأخير او نسف مشروع المعمل ، وتحويل وجودها الى دائم ، فانه خوف مشروع في ظل التجربة السابقة مع الباخرتين الراسيتين في الجية وتعملان منذ ثماني سنوات . ولكن ​حركة أمل​ التي تتذرع بهذا الامر ، مسوؤلة ، مثل باقي الفرقاء السياسيين ، عن تعطيل مشروع بناء معمل دير عمار 2 الذي لو انجز في حينه ، لكان ​أمن​ 500 ميغاواط اضافية للشبكة، ووفر كل هذا الجدال حول البواخر .

وللتذكير فان ​مناقصة​ مشروع بناء المعمل رست على مجموعة بوتك ال​لبنان​ية وابينير الاسبانية بسعر يقارب 600 مليون دولار، لانتاج 600 ميغاواط الا ان وزارة ​الطاقة​ الغت المناقصة علما ان الفائز قبل بخفض الكلفة حوالى 50 مليون دولار بطلب من وزارة الطاقة عبر الغاء بعض الاشغال الخارجية في المشروع والتي لا تؤثر على تشغيل المعمل، ولكن الوزارة اصرت على اجراء مناقصة اخرى فازت بها شركة يونانية بـ 500 مليون دولار ، لبناء معمل ينتج 500 ميغاواط فقط ، ولكن سرعان ما طالبت هذه الشركة باضافة 50 مليون دولار بدل TVA ، فوقع الخلاف وتجمد المشروع منذ العام 2013 ، ومعروف ان وزير حركة أمل هو الذي رفض دفع الـ TVA. فكيف يصح ان يتهم اليوم الآخرين بتعطيل بناء المعامل ؟

واللافت ان الخلاف السياسي على الباخرة التركية الثالثة اصاب أيضا الثنائية الشيعية ، فحزب الله كان هو الذي طلب رسوها في الزهراني، وحركة أمل هي التي رفضتها. وهذا امر ذو دلالات كثيرة، وقد قيل ان صاحب شركة "غدار لتصنيع المولدات" المحسوب على الحركة هو المسؤول عن كل ذلك، في حين ان متمولا آخرا (من المحسوبين على حركة أمل)، يريد تولي بناء المعمل الثابت في الزهراني ، ولكن لا احد يعرف ​باي​ شروط، وهل سيتم ذلك عن طريق مناقصة؟ واذا كان الامر كذلك كيف حسم المشرزع له سلفا؟

وفي معلومات خاصة بـ"الاقتصاد"، فان المسح الذي أجراه حزب الله في كل منطقة الجنوب وخصوصا في المدن ، بيّن ان اصحاب المولدات يتمتعون بحماية الحركة التي تمنع البلديات من مراقبة هذه المولدات والزامها بالتسعيرة الرسمية التي تصدرها دوريا وزارة الاقتصاد.

الباخرة التركية ستنتقل الى ​معمل الذوق​ حيث من المتوقع ان تبدأ بتزويد الشبكة خلال يومين حوالى 200 ميغاواط تستفيد منها مناطق في المتن وكسروان و​جبيل​. وهذا خبر مفرح لاهالي هذه المناطق ، الا ان ازمة الكهرباء لن تنتهي ، وانما هي مقبلة على فصول جديدة من التجاذب السياسي. فالباخرة الثالثة مجانية ، حسب اعلان وزارة الطاقة ، ولكنها تحتاج الى اعتمادات اضافية لصيانتها وتزويدها بالفيول اويل، وحركة أمل تمسك بمفتاح هذه ​الاعتمادات​ عبر وزارة المال. وحتى لو تأمنت الاموال للباخرة الآن، فان وجودها المجاني موقت بثلاثة اشهر فقط، وبعدها ستغادر او ستطلب وزارة الطاقة ابرام عقد جديد معها لسنوات، وهذا سيكون مستحيلا اذا استمر الخلاف السياسي.

حل أزمة الكهرباء موجود تقنيا، وصار معروفا من الجميع، وهو بناء 3 معامل انتاج جديدة تؤمن 1500 ميغاواط مفقودة اليوم وتنتجها المولدات الخاصة. ولكن من يجرؤ على اتخاذ هذا القرار، فيضرب قطاعا مافياويا يكسب ملياري دولار سنويا، في حين ان الـ 1500 ميغاواط التي تنتجها ​مؤسسة كهرباء لبنان​ تكبد الخزينة خسائر تقدر بملياري دولار.

لقد كشفت حادثة الباخرة التركية الثالثة المستور وأظهرت مثالا فاضحا على الحماية السياسية التي يتمتع بها قسم من مافيا المولدات ، في ما خص الجنوب ، بانتظار جلاء حقائق مماثلة في المناطق اللبنانية الاخرى .

هذا القرار السياسي توفر في ​مصر​ مثلا، فاوكلت المهمة الى شركة "​سيمنز​" فبنت مجموعة من المعامل بفترة قياسية (سنتان ونصف ) تنتج 14400 ميغاواط بكلفة 570 الف دولار فقط للميغاواط الواحد. بلغت كلفة المعامل حوالى 8 مليارات دولار وفرت "سيمنز" وحلفاؤها جزءاً كبيراً من تمويل المشروع للدولة المصرية عبر ​قروض​ من ​البنك الدولي​ و​الاتحاد الأوروبي​ ومجموعة "هيرميس".

نحن لدينا قروض موعودة في مؤتمر "سيدر" لاعادة تاهيل البنى التحتية ، تقدر بـ 11 مليار دولار والاولوية يجب ان تعطى لقطاع الكهرباء ، فاذا تأمن القرار يمكن تخصيص اقل من مليار واحد (حسب ​اسعار​ سيمنز في مصر 855 مليون دولار ) لبناء ثلاثة معامل تنتج الـ1500 ميغاواط المفقودة ، فيتوقف حرق ملياري دولار سنويا من المال العام.