هبة بلوط، البالغة من العمر 32 عاما، هي شابة ​لبنان​ية قادها شغفها الى مهنة التعليم، وأوصلتها أفكارها العصرية الى قلوب التلاميذ، ورسخها عقلها في تاريخ المجال التربوي في لبنان. هي شابة ناجحة، واثقة من نفسها، وقمة في عطاءاتها.

نجاحها لم يأتِ بالصدفة، بل بالمثابرة المتواصل، والشغف اللامحدود، والإصرار والعمل الجاد، لتعكس بذلك صورة أجيالنا الطموحة.

فقد شقت طريقها بحزم، وتمكنت بمجهودها، ورغبتها الصلبة من رفع اسم بلدها عاليا. وما زالت الى حد اليوم، شعلة من العطاء والذكاء والإبداع، حتى بعد كل ما قدمته من جهد وعطاء، ما يجعلها قدوة ومثالا أعلى.

فازت بـ"​جائزة​ أفضل م​علم​" التي نظمتها "الشبكة العربية للتعليم الشعبي"، وقد تم اختيارها ضمن القائمة النهائية لأفضل 50 معلماً مرشحين لنيل "جائزة أفضل معلم في العالم 2018"، المقدمة من قبل مؤسسة "فاركي"؛ والتي تعتبر أكبر جائزة من نوعها في العالم بقيمتها البالغة مليون دولار. وبلوط هي معلمة علم الأحياء ومنسقة العلوم في مدارس "سان جورج" في بيروت، كما تعمل كمرشدة للطلاب في برامج "نموذج ​الأمم المتحدة​" و"نموذج ​جامعة الدول العربية​"، التي نظمتها "الجامعة اللبنانية الأميركية" منذ عام 2011، ما ساعدها على تنمية مهاراتالتواصل​​​​​​​والقيادة لدى طلابها.

وتشجع هبة الطلاب على المشاركة في المؤتمرات العالمية والتفاعل مع القضايا التي تواجه عالمنا اليوم. أما في مجال تدريسها للعلوم، فقد تبنت نهج الابتكار والإبداع بهدف إضفاء المتعة على الرحلة التعليمية، وتجلّى ذلك في ابتكارها لعبة حملت اسم "إندوكرينوبولي"، حول أحد الدروس المتعلقة بالهرمونات، استوحتها من لعبة "مونوبولي"، مع إضافة بعض التعديلات لتلائم مجال العلوم الذي يدرسه الطلاب.

حول هذه التجربة الشيقة والشاقة، حاورتها "الاقتصاد":

- أخبرينا أكثر عن مشاركتك في مسابقة "فاركي"؟

المسابقة كانت تجربة العمر، وأعتبرها بمثابة إنجاز لا مثيل له، خاصة عندما اكتشفت أنني اللبنانية الوحيدة التي وصلت الى هذه المرحلة بعد أربع سنوات من تاريخ المسابقة.

بدأت هذه المسابقة معي ذهنيا، منذ أن قررت أن أصبح معلمة، وتعهدت أن أقدم الصورة الموجودة في رأسي؛ وكانت هذه الصورة تشبه الى حد ما، أول معلمة لي في الحضانة في ​السعودية​ حيث كنت أعيش مع والديّ، التي شكلت عاملا مساعدا ومؤثرا، لأنها كانت تقدم لمسة من الأمومة، ومن الإبداع أيضا. وبالتالي فإن شخصية هذه المعلمة، دفعتني الى تقليدها يوميا في المنزل، ومع الوقت بقيت هذه الفكرة مطبوعة في رأسي.

وفور عودتي الى لبنان، وجدت بعض الفرق في طريقة المعلم في التعامل مع الطلاب، ولهذا السبب فكرت بوضع قائمة بالواجبات (to-do list )، وقائمة بالممنوعات (not-to-do list)، وقررت التخصص حينها في علم الأحياء؛ وكنت خلال فترة الدراسة، مهتمة بالحصول على علامات مرتفعة، كما كنت أدرس كثيرا بسبب رغبتي في أن أكون ممتازة في المجال الذي أحبه، ولكن في الوقت ذاته كنت أمارس هوايات ونشاطاتي، وأعيش حياة طبيعية.

عندما وصلت الى مدرسة "السان جورج"، منذ حوالي 11 سنة، بدأت بتعليم الصفوف الصغيرة، ومع الوقت طورت نفسي، وانتلقت الى الصفوف الأكبر، كما استلمت تنسيق مادة علم الأحياء، ورئاسة دائرة العلوم. ومع الوقت شعرت أنني بدأت بتحقيق الانجازات على صعيد "المادة"، لكنني قادرة على تحقيق تغيير كبير من ناحية "التلاميذ"، فلماذا لا أوسع نطاق العمل؟

منذ سبع سنوات، عرضت علي الإدارة "برنامج القيادة" (leadership program)، المتمثلة في برامج "نموذج الأمم المتحدة" (Modern United Nations )، و"نموذج جامعة الدول العربية" (Modern Arab League)، ومن هنا بدأت باكتشاف الوجه الآخر لطلابي، وهم في المقابل يتعرفون الى وجهي الآخر، وبالتالي دخلنا في مواضيع لم تعد محصورة بجدران الصف، بل تنطوي تحت لواء "مهارات الحياة"، ومن هنا أصبحت علاقتنا تشبه علاقة الشخص بشقيقته الكبرى، وأصبح الطلاب ينظرون الي كقدوة في الحياة اليومية.

​​​​​​​

وبالفعل، توسعت النشاطات، وأصبحنا نشارك في مؤتمرات الأمم المتحدة الدولية، لتمثيل لبنان. وبذلك، بدأت بتحضير "مواطن عالمي"، يتعلم مهارات الحياة، ويسافر الى الخارج، وليس فقط تلميذ يدرس مادة علوم الأحياء في لبنان.​​​​​​​

وبعد ذلك، عرضت علي إدارة المدرسة برنامج ثالث وهو "ألوان" التابع لمؤسسة "أديان"، والذي يهتم بتعايش الطوائف المشترك في لبنان؛ فنحن نواجه نقصا شاسعا في مجال التعايش المشترك وتقبل الآخر. وقد خولني "ألوان" تعليم تلاميذي ليس فقط تقبل الآخر اللبناني، بل تقبل كل شخص موجود على الكرة الأرضية.

كل هذه الأمور كانت بمثابة حزمة ساعدتني على القيام بالخطوة الأولى نحو المسابقة، اذ اختارتني "أديان" للترشح الى جائزة "أفضل معلم في لبنان"، المعنوية. وبعدها، اختارت "فاركي" خمسة مشاركين من لبنان، وعلمنا في وقت لاحق أنه تم تقديم 30 ألف طلب من 173 دول من العالم. ولا يمكن أن أنسى اللحظة التي تلقيت فيها ​البريد الالكتروني​ لإعلامي بأنه تم اختياري بين أفضل 50 معلم في العالم، وذلك بعد تقديم طلب غني بالأسئلة والمعلومات، وإجراء مقابلة عبر تطبيق "​سكايب​" لمدة 15 دقيقة.

ومن ثم، اختاروا 20 معلما للتعاون المستقبلي المستدام مع "فاركي"، وكنت من بينهم. وفي النهاية، اختاروا 10 من بلدان مختلفة، ولبنان لم يكن موجودا بينها.

لكن شعور هذه التجربة لا يشبه أي شعور آخر عايشته طوال حياتي، فنحن كنساء عربيات نشعر أن نجاحنا غير محدود، وفي بعض الأحيان نضع بأنفسنا الحدود لطموحاتنا وقدراتنا.

- معنويا، ماذا تعني لك المشاركة في مؤتمر "فاركي" العالمي؟

منذ سنتين، عندما شاهدت تقريرا عن حنان ​الحروب​، الذي فازت في العام 2016، بجائزة "أفضل معلم في العالم"، وحصلتعلى مبلغ مليون دولار، تأثرت كثيرا.

واليوم، بعد سنتين، شاركت مثل حنان في هذه المسابقة، وتعرفت اليها، وأخبرتني كم هي فخورة بإنجازاتي، كما كانت من أوائل الأشخاص الذين اتصلوا بي لتهنئتي.

- هل تلقيت الدعم الرسمي في لبنان لدى مشاركتك في المسابقة؟

واجهت فجوة من الناحية الرسمية، فاسم وزارة التربية كان موجودا على الدرع الذي حصلت عليه خلال حفل التكريم، لكن الوزارة لم تقدم شيئا من هذه الناحية، وحتى أن الوزير لم يدعوني الى إجراء مقابلة، ولم يشارك في المؤتمر العالمي الذي دعي اليه، مع العلم أن كل المشاركين الآخرين حصلوا على احتضان رسمي من حكوماتهم.

لكنني فرحت كثيرا بالتشج​​​​​​​يع الذي لاقيته من بعض اللبنانيين المغتربين الذين جاءوا للمشاركة، ولتقديم الدعم على المستوى الشخصي.

ومن هنا لا بد من التشديد على ضرورة احتضان الوزارة لأفكارنا الجديدة، لأننا نسعى الى التغيير في مجال التربية، والتحسين من الناحية التعليمية.

- ما هي التحسينات التي قمت بها في مدرسة "السان جورج"؟

إدارة المدرسة حاضنة لأفكاري، ولولا إيمان الأعضاء بي، لما وصلت الى ما أنا عليه اليوم. ففي مكان ما، كانوا "يشقّون" الباب، وأنا بدوري أفتحه.

وبالتالي وجدت طوال الوقت، تشجيعا واسعا من الإدارة، وتفهما رائعا من والدي.

كما أن تطوير الذات هو هاجس دائم بالنسبة لي، فالتعليم يساوي الشغف ورسالة الأنبياء، والتلميذ يقضي معي وقتا أطول من الذي يقضيه مع والدته، ومن هنا أنا المسؤولة عن تغيير شخصيته، لكي يخدم مجتمعه بشكل أكبر.

- ماذا يعني لك النجاح في عمر مبكر والوصول الى أهداف كبيرة خلال فترة قصيرة؟

أقول "ألف الحمد لله" على هذا الأمر، لأنه يعني لي الكثير على الصعيد الشخصي والعائلي والمدرسي أيضا. فكل شخص منا يسعى ليكون قدوة أو مثال أعلى في مكان ما.

كما أن وصولي بعمر صغير هو إيمان داخلي بقدرتي على التغيير، يمنحني المزيد من التمكين.

- ما هي طموحاتك؟

طموحاتي كثيرة وغير محدودة، اذ أسعى الى تطوير ذاتي بشكل أكبر، والوصول الى أماكن أبعد من أجل خدمة مجالي.​​​​​​​

كما أن هدفي هو تغيير منهج التعليم في لبنان، والبحث عن أشخاص يشبهونني من أجل العمل معا على هذا الموضوع. فنحن قادرون على تعديل المناهج وتقديم الأفضل لتلاميذنا.ولا يمكن الاستمرار في لوم هذا الجيل، واتهامه بالكسل والخمول، بل علينا تقديم شيء له بالمقابل. وعلى صعيد المدرسة والتلاميذ، فإن إنجازات الماضي تعطيني دفعة أكبر الى الأمام، لأن التلميذ ينتظر مني اليوم أكثر من ما قدمته أمس. فقصة التعليم لم تعد مهنة بالنسبة لي، بل باتت أسلوب حياة.

- ما هي نصيحة هبة بلوط الى المرأة في لبنان؟

أولا، نحن قادرات على خلق الفرص، ومن واجبنا أيضا خلق هذه الفرص، لأنها لن تصل الينا على "طبق من فضة".

ثانيا، اذا ثابرت المرأة في مجال معين، دون شغف، لن تنجح أبدا، لأن الشغف هو مفتاح النجاح، بالاضافة طبعا الى الإصرار والإيمان بالذات والتحلي بالطاقة الايجابية - التي ستعكسها على محيطها.

ثالثا، المرأة بالتحديد هي كتلة من العواطف والمشاعر والحب والشغف، وهذه الصفات هي عناصر قوة لكي تنجح بما اختارته لنفسها.

- ما هي الرسالة التي تودين إيصالها الى المعلمين والمعلمات في لبنان؟

كلما أحب الشخص مهنته كلما أعطاها من قلبه أكثر، والأساتذة في لبنان يواجهون صعوبات عدة، ولذلك أقول لهم: "لا نريد أن ننتظر التغيير من أي أحد، بل يجب أن نكون نحن بأنفسنا التغيير، لكي نحقق مستقبلا جميلا لتلاميذنا".

كما أنصحهم أن يؤمنوا بقدراتهم، ويمسكوا بأيدي طلابهم ويتوسعوا الى خارج نطاق الصف، لأن الحياة اليومية في لبنان صعبة، ومن الجميل أن نعلمهم بعض المهارات الحياتية المفيدة لهم ولمجتمعهم أيضا.

فالتعليم من أصعب المهن، لأننا نتعامل من خلاله مع عقول وقلوب بشرية، وبالتالي نستطيع بكلمة واحدة أن نحفز التلميذ ونجعله أقوى، أو نكسره ونعيده الى الوراء وندمره نفسيا.

كما أن الممنوع عليهم ممنوع علينا أيضا، والمسموح لهم مسموح لنا أيضا، وبالتالي علينا الانتباه الى كلماتنا وتصرفاتنا، لأن تلاميذنا يراقبوننا على الدوام. ولهذا السبب، أطلب من الجميع أن يمكنوا أنفسهم أولا وتلاميذهم ثانيا.