الصحافة الورقية في لبنان تعاني من تدهور مستمر في أوضاعها وأوضاع العاملين فيها أيضا، فالأعوام الأخيرة كانت صعبة وقاسية عليها محليا وعالميا أيضا، في ظل ازدهار الصحافة الالكترونية من جهة ومواقع التواصل الاجتماعي من جهة أخرى، ما أدى الى انخفاض إيرادات الصحف والمجلات، وتراجع نسبة قرائها والاشتراكات فيها، وبالتالي الإعلانات الممولة لها.

ومن هنا، اضطر عدد كبير من الشركات المالكة للمنشورات الصحافية، الى تخفيض المصاريف والتكاليف وترشيد الإنفاق، ما تسبب في إغلاق بعض المكاتب وتسريح نسبة كبيرة من الموظفين. ولبنان يضم أمثلة كثيرة عن هذه الأزمات، منها "السفير"، و"المستقبل"، و"النهار"، ومؤخرا "الحياة" و"البلد".

ففي العام 2015، بدأ التعثّر المالي لجريدة "البلد"، المملوكة من قبل بشار كيوان ومجد سليمان - وهما رجلا أعمال يحملان الجنسية السورية - في ما يتولى إدارتها في بيروت فادي الحمصي.

وفي مطلع 2017، تم صرف 28 موظفا من جريدة "البلد" وتوأمها "الوسيط"، أما في أيلول 2017، فتم تسريح الدفعة الاخيرة، حتى وصل العدد الى حوالي 100 موظف؛ وذلك بعد حملة من الضغوط الإدارية للاستقالة، دون الاكتراث لأعباء الموظفين والتزاماتهم الاجتماعية والاقتصادية والمصرفية.

وبالاضافة الى ذلك، لم يتقاضَ الموظفون المصروفون رواتبهم المحقة – بعضهم لفترة تصل الى 11 شهراً - وحتى خلال الأيام التي كانت تصدر فيها الصحيفة؛ اذ كانت تصدر يوميا بفضل جهود أربعة موظفين فقط ، إضافة الى متعاونة مستقلة، وهم محرر للشؤون السياسية والمنوعات، وآخر للشؤون العربية والدولة، وموظف في قسم الاخراج الفني، وآخر في قسم التدقيق اللغوي.

وعند بدء الأزمة، لجأ الموظفون الى القضاء والى وزارة العمل، حيث حضر محامي الجريدة وتعهد بدفع حقوق المصروفين تعسفياً خلال شهرين، ولكن على الرغم من جميع المحاولات القانونية و"الودية" التي قام بها المصروفون والمستقيلون قسرا، ومن جدولة تسديد الرواتب على دفعات متساوية على ستة أشهر وثمانية أشهر ولعام كامل أيضا، ترفض إدارة المجموعة الدفع رغم رعاية الوزارة، بحجة عدم توفر الأموال؛ لكنها من فترة الى أخرى، ترسل دفعة تترواح بين 10 و20 ألف دولار من أجل توزيعها على "جميع" المصروفين، وبالتالي يحصل كل واحد منهم على مبلغ يتراوح بين 100 و200 دولار؛ وهذا الأمر معيب!

وفي شباط 2018، تمكن رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر، وعدد من أعضاء هيئة المكتب وبمشاركة لجنة العمال المصروفين من جريدة "البلد" و"الوسيط" و"ليالينا" وشركة "انتغرا"، من التوصل لحل نهائي لقضية الحقوق والتعويضات، وذلك بفضل تجاوب المسؤولين في إدارة هذه المؤسسات. وقضى الحل بتقسيط دفع المستحقات على أساس مبلغ 20 الف دولار يدفع شهريا ويوزع بالتساوي لأصحاب الحقوق من العمال والصحافيين بدءا من هذا الشهر. كما جرى الاتفاق على دفع مبلغ مماثل كل شهر حتى تسديد جميع المستحقات، ووصولهم الى كامل حقوقهم وتعويضاتهم؛ ولكن عبثا حاولوا!

فبالاضافة الى عدم الالتزام بالدفع، تعمد المجموعة الى التهرب من الدعاوى القضائية عبر تغيير أسماء الشركات وأسماء المالكين، ونقل مكاتبها الى شقة في المكلس.

وفي حزيران الماضي، اعتصم الموظفون المصروفون أمام مطابع "السفير" في الحمرا، حيث تصدر أعداد الجريدة عند السابعة صباحًا، وصادروا الأعداد منعا لتوزيعها في الأسواق حتى دفع مستحقاتهم. وشارك الأسمر وأمين الشؤون الاقتصادية في الاتحاد أكرم عربي مع عدد من الناشطين في الاتحاد.

جلاد: "ما هو السبيل لتحصيل تلك المستحقات في ظل بطء الروتين القضائي وعدم وجود أي دعم للعامل"

والصحافية باتريسيا جلاد من بين الذين لم تلتزم إدارة جريدة "البلد" بتسديد رواتبهم الشهرية والمستحقة لها لفترة عام، وأشارت في حديث خاص مع "الاقتصاد"، الى أنه كان يتم التسديد للذين يمارسون ضغوط على الادارة، وسألت "ما هو السبيل لتحصيل تلك المستحقات في ظل بطء الروتين القضائي وعدم وجود أي دعم للعامل لا من جهة وزارتي العمل ولا العدل من خلال تسريع الدعاوى؟ خاصة أن الشركة تحاول التهرب من تلك المستحقات بعد تأسيس شركة جديدة".

كما أكدت مصادر لـ"الاقتصاد" غياب الالتزام بالدفع، وأنه منذ تاريخ الصرف والى حد اليوم، حصل بعض الموظفين على مبلغ 600 ألف ليرة فقط، ما يعدّ نسبة ضئيلة جدا من المبلغ المطلوب، الذي قد يصل الى 24 ألف دولار.

ولفتت المصادر الى أن ضغط الشارع لا ينفع، ولا المحاكم أو الدعاوى، وقد تم تغيير اسم الشركة من أجل "الاحتيال" على الموظفين، خاصة أن أصحاب الجريدة من سوريا، وأملاكهم غير مسجلة في لبنان. موضحة أنه كلما تم تنظيم مظاهرة بدعم من الاتحاد العمالي العام، تدفع الشركة مبلغا يصل الى حوالي 10 آلاف دولار، يتم توزيعه على أكثر من 90 موظفا، وبالتالي لا يحصل كل شخص على مبلغ يُذكر.

عازوري: لا تستطيع الشركة بين ليلة وضحاها، أن تقفل أبوابها، دون تخصيص ضمانات لحقوق الصرف للموظفين.

"الاقتصاد" تواصلت مع الوكيل عن موظفي "البلد" المصروفين، المحامي أكرم عازوري، من أجل الاطلاع أكثر على مجريات القضية، والتعرف الى التدابير التي بإمكان الموظفين اتخاذها اليوم مع تغيير اسم الشركة والتملص من الدفع، حيث أشار الى أن قيمة الرخصة الاعلامية هي بثمن الرخصة الاعلامية التي تصدرها وزارة الاعلام، وبإمكان الموظفين وضع إشارة على هذه الرخصة لدى وزارة الاعلام، بعد قرار قضائي، للتأكيد على حقوقهم وعلى قيمتها أيضا. كما أن شركة "البلد" لديها موجودات لا نعلم قيمتها المحددة (من مكاتب، ومفروشات،...)، أو ديون تجاه الغير.

وذكر أن الموضوع أوسع من ذلك، لأن حالة جريدة "البلد" ليست حالة معزولة، فمنذ سنة ونصف ظهرت مشكلة أيضا مع جريدة "النهار"، كما أن جريدة "الحياة" تواجه حاليا المشاكل، ومن هنا أكد على مسؤولية الدولة الأساسية التي تكمن في إيجاد الحلول، ومعرفة أسباب الأزمة التي يمر بها القطاع الاعلامي، اذ لا يجوز أن يتفرغ لبنان من وسائله الاعلامية، لأنه سيفقد بذلك جزءا كبيرا من رسالته؛ كونه المركز الاعلامي الرائد في الشرق الأوسط.

ولفت عازوري الى أنه قبل إعطاء الترخيص بإصدار أي مطبوعة أو وسيلة إعلامية، المطلوب من الدولة أن تطالب بضمانات مالية كافية لتأمين حقوق الموظفين، لأن الصحافيين هم مواطنون لبنانيون يرتبطون بقانون العمل، ويضحون لسنوات عدة من أجل إنجاح هذه الوسيلة، وبالتالي لا تستطيع الشركة بين ليلة وضحاها، أن تقفل أبوابها، دون تخصيص ضمانات لحقوق الصرف للموظفين.

وأضاف "لم ألتمس الى حد اليوم، أي بوادر حلحلة في المستقبل القريب، بل هناك وعود وتعهدات خطية بإشراف وزارة العمل، في حين أن التنفيذ غائب".

الأسمر: الاتحاد يواكب الأمور كافة.. من أجل الوصول الى حلّ سريع ومحق

بدوره أشار رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر، في حديث لـ"الاقتصاد"، الى أن الاتحاد يقف الى جانب الاعلاميين والعمال المصروفين من جريدة "البلد"، كما يتولى الدفاع عنهم في كل المحاكم القانونية وعلى الأرض أيضا.

وتابع قائلا "لقد نظمنا احتجاجات لوقف صدور الجريدة منذ حوالي أسبوعين، كما تحركنا نهار الاثنين الماضي، باتجاه "الوسيط"، من أجل منع صدورها أيضا. وبالتوازي، نجري اتصالات مع المسؤولين لوضع تصور للحلحلة، لكن هذه المبادرات لم تؤدِ للأسف لأي نتيجة الى حد اليوم".

وحول الخطوات المستقبلية، أوضح الأسمر "نحن في خضم خطوات تصعيدية، ولكن في المقابل هناك حوار، فقد اجتمعت مع شخصين من قبل الجريدة، وفتحنا أبواب الحوار، لكن الأمور بحاجة الى المزيد من الوقت، لأن المعنيين في هذه القضية غير متجاوبين، وكل الوعود التي قطعوها لم تأخذ طريقها نحو التنفيذ السريع".

كما لفت الى أن الشركة تقوم بنوع من "التغيير الاحتيالي"، من خلال تغيير اسمها، لكن الاتحاد يواكب الأمور كافة، أكان على الصعيد القضائي أم على الصعيد العملي اليومي، من أجل الوصول الى حلّ سريع ومحق. مشيرا الى أن الأمور ليست سهلة، والوضع يتفاقم أكثر فأكثر مع مرور الأيام، وخاصة في ظل غياب الدولة الراعية.

وأضاف "الوضع ليس سليما، وشهدنا مؤخرا على صرف الموظفين من المؤسسات السياحية والمصارف أيضا، لكن الاتحاد جاهز في أي لحظة للوقوف الى جانب المظلومين من العمال والموظفين".

وفي النهاية وجه الأسمر رسالة الى الموظفين اللبنانيين نصح فيها كل موظف مصروف أو تم تبليغه بالصرف، أن لا يقوم بأي إجراء، أو يوقع على أي ورقة، قبل التواصل مع الاتحاد العمالي العام، الذي يتعاون مع مجموعة من الحقوقيين والمستشاريين للمساعدة في معالجة هذه المواضيع. مضيفا "نحن متواجدون على الأرض لكي نكون الى جانب المظلومين، من أجل تحصيل حقوقهم، كما أننا نستخدم أحيانا الوسائل القاسية، وننظم الاعتصامات لمنع الصرف التعسفي، ولمعالجة الحالات الحاصلة".