أصدر ​صندوق النقد​ في 21 من الشهر الجاري تقريرًا عن ​الإقتصاد اللبناني​ وصف فيه واقع الإقتصاد اللبناني إضافة إلى توصيات أطلقها بإتجاه السلطة السياسية. وهنّأ الصندوق ​مصرف لبنان​ بسياسته النقدية التي إستطاعت المُحافظة على الإقتصاد اللبناني خلال الفترة السابقة لكنه دعى في نفس الوقت المصرف إلى إعادة تقييم سياسته على الآمد البعيد والعودة إلى سياسات نقدية تقليدية. فهل هذا الأمر مُمكن في ظلّ الظروف الحالية؟

عند إستلام ​رياض سلامة​ سدّة حاكمية مصرف لبنان في العام 1993، كانت الوضع الإقتصادي مُتردّي جدًا و​الليرة اللبنانية​ في حالٍ يُرثى لها. وحدّد سلامة سياسته النقدية من خلال قيود كانت مفروضة عليه: (1) إستحالة النهوض بإقتصاد عملته تتدهور بشكل عشوائي، و(2) إستحالة تمويل الإقتصاد بأسعار فائدة خيالية. هذين الواقعين حدّدا سياسة الثبات النقدي التي إعتمدها سلامة منذ ذلك الوقت.

لكن تطبيق سياسة الثبات النقدي واجهه صعوبات جمّة يُمكن ذكر عدد منها: الوضع الإقتصادي المُذري مع إنتهاء الحرب الأهلية، نسبة التضخمّ العالية أنذاك، ضعف الثقة ب​القطاع المصرفي​ الذي كان غير منُظّم، ضعف الإحتياطي المركزي من العملات الأجنبية... هذه الأمور أظهرت صعوبة وضع سياسة ثبات نقدي على الآمد القصير، المُتوسطّ والبعيد.

تلاقت نظرة سلامة النقدية مع نظرة الرئيس رفيق الحريري الإقتصادية والتي تمثّلت بإستخدام رافعة ​الدين العام​ للنهوض بالإقتصاد وذلك من خلال الإستدانة بهدف الإستثمار. وهذا ما حصل فعلًا، بدأت ​الدولة اللبنانية​ تقترض الأموال بهدف الإستثمار في البنى التحتية والتي أعادت النمو الإقتصادي إلى مُعدّلات أكثر من مقبولة في ذلك الوقت.

خلال هذه الفترة، عمد سلامة إلى العمل على ثلاثة محاور:

أولًا – تحديد هامش لسعر صرف الليرة اللبنانية مقابل ​الدولار الأميركي​ (بهدف المحافظة على مُمتلكات اللاعبين الإقتصاديين)؛

ثانيًا – تثبيت أسعار الفائدة وترشيدها (بهدف تثبيت تمويل الماكينة الإقتصادية)؛

ثالثًا – تنظيم القطاع المصرفي ودمجه في المنظومة المالية العالمية (بهدف تأمين التمويل الخارجي ولكن أيضًا فتح المجال للتجارة الدولية مع لبنان).

وإستخدم سلامة خلال هذه الفترة الأدوات النقدية التقليدية والتي تتمثّل بثلاثة وسائل أساسية:

أولاً – دوّزنة الإحتياطات الإلزامية للمصارف التجارية في مصرف لبنان؛

ثانيًا – دوزنة أسعار الفائدة؛

ثالثًا – دوزنة قيمة ​الكتلة النقدية​ في الأسواق عبر الأوراق المالية (open market).

إستخدام سلامة لهذه الأدوات كان بهدف خدمة منطق السياسة النقدية (تقيدية أو توسعية) بحسب الدوّرة الإقتصادية. فمثلًا، في حال كان هناك تضخّم في الأسواق، كان سلامة يرفع الإحتياطات الإلزامية و/أو يزيد ​سعر الفائدة​ و/أو يمتص السيولة في الأسواق (سياسة تقيدية).

الأحداث السياسية والأمنية التي مرّ بها لبنان لم تسمح لخطّة الرئيس الحريري بالنجاح، وأخذ التآكل في الماكينة الإقتصادية يزداد ومعه العجز في الموازنة. هذا الواقع الجديد فرض على سلامة إعادة النظر في الأدوات التي يستخدمها لضمان الثبات النقدي، فالأدوات النقدية التقليدية لم تعد كافية ولم تعد تسمح بضمان نجاح السياسة النقدية التي يقودها. والأصعب أن العودة إلى الوراء كان سيكون كارثيًا. خيار سلامة لأدوات جديدة لإستمرار بسياسته النقدية لم يكن خيار بالفعل بل كان إلزاميًا على سلامة إيجاد وسائل أخرى.

إلتجأ سلامة، وهو من أتباع المدرسة الكنيزية، إلى الأدوات غير النقدية (إجراءات إحترازية). وهنا تعرض النظرية الإقتصادية عدد محدود من الأدوات التي تُصنّف غير نقدية بحكم أنها لا تدخل في الوسائل التقليدية ولكنها مالية بإمتياز. وعلى رأس هذه الأدوات يُمكن ذكر (هناك أكثر من 11 إجراء):

أولًا –إجراءات قانونية بهدف تثبيت الإقتصاد وذلك من خلال تخفيف المخاطر من وجهة نظر نقدية (مثلًا رفع السيولة الإحتياطات الإلزامية، نسبة اﻟﻘﺮوض إﻟﻰ اﻟﻘﻴﻤﺔ، نسبة القروض المُتعثّرة،ﻧسبة خدمة الدين...). هذا الأمر هو إجراء قامت به العديد من ​المصارف​ العالمية ولكن فعّالية التطبيق في لبنان كان لها الفضّل الأول في زيادة الثقة بالقطاع المصرفي الذي تحوّل إلى مركز مالي من أهمّ المراكز المالية العالمية؛

ثانيًا –إجراءات لضمان التمويل مثل نسبة اﻟﻘﺮوض إﻟﻰ اﻟﻘﻴﻤﺔ، نسبة القروض المُتعثّرة،ﻧسبة خدمة الدين...

ثالثًا – ميزانية المصارف: مثل رفع السيولة، الإحتياطات الإلزامية، نسبة القروض المُتعثّرة...

رابعًا – تدفقات رؤوس الأموال خصوصًا الداخلة إلى لبنان وهي بالعملة الصعبة مما يسمح بتمويل الإقتصاد ولكن أيضًا بدعم الليرة اللبنانية.

كل هذه الإجراءات قام بها سلامة إضافة إلى الأدوات التقليدية التي لم ينقطعّ يومًا عن تطبيقها.

الثبات النقدي، في ظل غياب ماكينة إقتصادية متآكلة ومالية عامّة مُذرية، مُتعلّق بقدرة الدوّلة على تأمين العملة الصعبة. وهذا الأمر فهمه سلامة وأبدّع فيه من خلال هندساته المالية التي إستطاعت جذب عشرات مليارات الدولارات إلى لبنان. وهذا الإنجاز دفع بصندوق النقد الدولي إلى تهنئة سلامة عليه ومصرف جي بي مورغان، أحد أكبر المصارف العالمية (رأسماله 3 تريليون دولار أميركي) إلى تكريم سلامة على إنجازاته.

صندوق النقد الدوّلي، دعى الحكومة اللبنانية إلى لجم العجز في الموازنة من خلال إجراءات مثل رفع الدعم عن ​مؤسسة كهرباء لبنان​، رفع الضريبة على القيم المُضافة، وإجراء الإصلاحات اللازمة في الدوّلة... ودعى في نفس الوقت مصرف لبنان إلى إعادة النظر بسياسته النقدية على الآمد البعيد وإعتماد الأدوات النقدية التقليدية.

هذا الطلب هو مطلب حقّ. لكن لا يُمكن لمصرف لبنان ولا لرياض سلامة تغيير الأدوات المُستخدمة ما لم تعمد الحكومة إلى وقف نزف المالية العامّة. فالعملة تعكس قوة الإقتصاد قبل كل شيء وبالتالي الإصلاحات الإقتصادية يجب أن تسبق أي وقف للأدوات النقدية غير التقليدية. هذا الشرط هو أساسي ومن دون تحقيقه فإن التغيير في هذه الأدوات هو إنتحار مالي لأنه في هذه الحالة لن تصمد الليرة اللبنانية لوقت طويل.

في الختام لا يسعنا القول إلا أن الإستقلالية في السياسة النقدية والتي يضمنها الدستور اللبناني هي نعمّة على لبنان في هذا البحر من المشاكل التي تواجه الإقتصاد. كما أن وجود سلامة على سدّة الحاكمية وقناعته بضرورة الثبات النقدي هو نعمّة أخرى لأنه من دونها كنّا لنكون في وضع الأرجنتين.