يُظهر أداء حاكم ​مصرف لبنان​ أنه من أتباع المدرسة الكينزية التي تؤمن بدور الدولة بالتدخّل في الإقتصاد في أوقات الأزمات. هذا الواقع نراه من خلال ​السياسة النقدية​ التي يتبعها سلامة والتي تُشير إلى أن الثبات النقدي الذي يتبعه يبقى العامود الأساسي في النمو الإقتصادي والوصول إلى Full employment.

تبقى نظرية كينز رائدة في تبرير تدخل الدولة في الدورات الإقتصادية عبر سياستها المالية وسياستها النقدية. وكان للعالم الاقتصادي كينز (Keynes) نظرة شاملة للإقتصاد، فهو لا ينظر إلى الأشخاص الذين يُكونون المجتمع بل إلى مجموعات إقتصادية يدرس سلوكهم الاقتصادي (الإستهلاك، العمل والبطالة). ويرى أن قرار ​التوظيف​ لا يتعلق فقط بأرباب العمل بل بمستوى الإنتاج وبالتالي بالإستهلاك الحقيقي الذي يلعب دوراً أساسياً.

يُدافع كينز بقوة عن دولة الرفاهة التي يتوجب عليها التدخل في الاقتصاد في أوقات الأزمات والخروج من لعب دور الدولة "البوليسية". ويُبرر هذا الأمر بأن الوصول إلى قمّة توظيف اليد العاملة (Full employment) لا يتم فقط بالتشريع، بل أيضاً بالتدخلات التي تقوم بها الدولة عبر سياستها الاقتصادية (بشقّيها المالي والنقدي)، وهذا يعني أنه يتوجب على الدولة أن تضع سياسة إقتصادية تسمح بالعمل الجيد للماكينة الاقتصادية. لكن كينز يدعم بهذا الأمر ​الدورة الاقتصادية​ أكثر منها التغيير الهيكلي للإقتصاد الذي يدعمه الإقتصاديون الكلاسكيون والذي يحدّ من القيود على الأمد القصير.

أداء ​حاكم مصرف لبنان رياض سلامة​ منذ إستلامه سدّة حاكمية مصرف لبنان تدلّ على أن نظرته إلى الإقتصاد هي نظرة كينزيّة من خلال إهتمامه بالسلوك الإقتصادي لمكونات المُجتمع اللبناني. هذا الأمر يظهر من خلال تشديده على ثلاثة محاور:

أولًا – وجود عمّلة وطنية يُمكن الإعتماد عليها في العمليات الإقتصادية وهذا ما ترجمه بتثبيت سعر صرف ​الليرة اللبنانية​ مقابل ​الدولار الأميركي​؛

ثانيًا – دعم الإقتصاد من خلال التأثير على الشق الإستثماري حيث قام بدعم القطاعات الإنتاجية من خلال رزم تحفيزية بلغت مليارات الدولارات في الأعوام الماضية وتثبيت أسعار الفائدة مما يسمح للشراكات الراغبة بالإستدانة من ثبيت كلفة القروض؛

ثالثًا – تأمين الهيكلية المصرفية الداعمة للإقتصاد وذلك من خلال تنظيم هذا ​القطاع المصرفي​ وإخضاعه للقوانين الدولية مما يسمح بالإنفتاح العالمي على الإقتصادات الأخرى ويزيد من ثقة اللاعبين الإقتصاديين بدور ​المصارف​ في اللعبة الإقتصادية.

بالتوازي لم يغب عن سلامة الشق الإجتماعي، إذ قام بدعم القروض السكنية بشكل ملحوظ سمحت للعديد من ذوي الدخل المحدود من الإقتراض بهدف تملّك شقّة. وبلغت قيمة هذا الدعم أيضًا مليارات الدولارات منذ العام 2011 وحتى يومنا هذا وبالتالي يظهر أن سلامة قام بإجراءات ذات طابع إجتماعي هي أصلًا من مهام الحكومة، لكن نظرته الكينزية إلى الإقتصاد دفعته إلى دعم هذه القروض.

الأدوات التي إستخدمها سلامة ليحقق أهداف سياسته النقدية (والتي طالت بجزء منها السياسة الحكومية) تعتمد بشكل أساسي على وسائل تطرحها أمامه النظرية الإقتصادية. ولكن وقبل الدخول في هذه الأدوات، يتوجّب القول أن الإقتصادات العالمية تنقسم إلى قسمين:

أولًا – الإقتصادات التي تتموّل من المصارف وهذا حال الدول ذات الإقتصادات غير المُتطورة ومنها لبنان؛

ثانيًا – الإقتصادات التي تتموّل من ​الأسواق المالية​ وهذا حال الدول ذات الإقتصادات المُتطوّرة مثل الولايات المُتحدة الأميركية.

وبالتالي عمد سلامة، بحكم أن ​الإقتصاد اللبناني​ يدخل في الفئة الأولى، إلى إعادة هيكلة القطاع المصرفي وحوّله إلى قطاع يوازي القطاعات المصرفية في الدول المُتطورة إقتصاديًا. وبما أنه سلطة ​رقابة​ وتشريع على هذا القطاع، قام بإستخدام هذه الميزة لتسريع تطبيق السياسة النقدية التي تتلائم وحاجة الإقتصاد اللبناني.

ومن أهم الأمور التي قام بها سلامة هو إستخدامه للأدوات التقليدية المنصوص عليها في النظرية النقدية بهدف السيطرة على ​الكتلة النقدية​ وبالتالي على ثبات سعر صرف الليرة اللبنانية. وتُحدّد النظرية النقدية سياستان أساسيتين للمصرف المركزي يتوجّب عليه إتبعاهما: الأولى سياسة توسعية وتقضي بتشجيع الإستهلاك والإستثمار كما وتحفيز الإنتاج والنمو والعمالية، والثانية سياسة تقييدية تهدف إلى حل مُشكلة التضخّم وضمان سعر صرف العملة كما وإستعادة ثقة اللاعبين الإقتصاديين والماليين بالعملة وبمتانة الإقتصاد.

المعروف في النظرية الإقتصادية أن العملة تعكس قوّة الإقتصاد، فكلما كان هذا الأخير قويًا كلما إنعكس ذلك في سعر صرف العملة والعكس بالعكس. وبما أن الإقتصاد اللبناني ومنذ الحرب الأهلية وحتى يومنا هذا يُعاني من خلل في هيكليته ومن مالية عامّة تُسجّل عجزًا مُزمنًا، لم تعد الوسلتين اللتين تنص عليهما النظرية النقدية كافيتين. لذا عمد رياض سلامة إلى إستخدام وسائل أخرى على رأسها ​تكوين​ إحتياط من ​العملات​ الأجنبية يسمح بإمتصاص التغيّرات السلبية في الإقتصاد اللبناني والناتجة عن عدّة عوامل منها إقتصادي، أمني وسياسي.

تكوين إحتياط من العملات الأجنبية ليس بالأمر السهل وقد يظن القارئ أن يكفي أن يتُخذ القرار ليتمّ تكوين هذا الإحتياط. الواقع هو أن تكوين هذا الإحتياط يتطلّب عمليات مالية (أسماها سلامة بالهندسات المالية) بين مصرف لبنان وبين المصارف التجارية تكون فيها المصارف والمركزي في وضعية "win-win situation" وإلا لن تكون المصارف مُلزمة بتفيذ هذه العمليات نظرًا إلى أن لبنان يعيش في نظام إقتصادي حرّ. لذا عمد سلامة إلى ترغيب المصارف من خلال عائدات على الأدوات المالية لجذب العملات الصعبة. وهنا يتوجّب الذكر أن هناك فارق أساسي في المعايير العالمية (IFRS9) ما بين العائدات والأرباح. هذه العائدات كان يدفعها مصرف لبنان إلى المصارف من خلال عائدات محفظته الخاصة التي تدرّ أرباحًا على مصرف لبنان وليس من خزينة الدوّلة التي لا سلطة لمصرف لبنان أو حاكمه عليها.

التاريخ يُخبرنا أن عملية تكوين إحتياط من العملات الأجنبية نجت وسمحت بضمان إستقرار سعر صرف الليرة على الرغم من الزلازل التي عصفت بلبنان أمنيًا وسياسيًا.

في الختام لا يسعنا القول إلا أن التوجه الإقتصادي لرياض سلامة كان مُفيدًا للإقتصاد اللبناني كما وللمواطن اللبناني عبر المحافظة على ثبات نقدي بشقيه الفائدة وسعر صرف الليرة. وهذا الأمر تترّجم بالحفاظ على ممتلكات المواطن اللبناني وعلى قيمة مدخوله الشهري بإنتظار إصلاحات هيكلية من قبل الحكومة تسمح بدعم القطاعات الإنتاجية بشكل كبير.