أنجز مركز الدراسات الاقتصادية التابع لـ"​فرنسَبنك​" دراسة حديثة تحمل عنوان "​لبنان​ بين إصلاحات ​سيدر​ واختلالات الاقتصاد"، والتي تتضمن قراءة في نتائج مؤتمر "سيدر"، والإصلاحات المالية والاقتصادية المطلوبة، والاختلالات القائمة في الاقتصاد اللبناني، وتوصيات للسياسة العامة.

وترى الدراسة أن إنعقاد مؤتمر "سيدر" ونتائجه ولا سيّما لناحية إقرار مساعدات مالية كبيرة بقيمة 11.6 مليار دولار شكّل صدمة معنوية كبيرة للبنان، إذ عكست ثقة المجتمع الدولي بالبلد وبقدرته على تجاوز الصعاب والتحدّيات الماثلة والمستقبلية التي يواجهها وسيواجهها خلال المرحلة المقبلة.

وأوضحت الدراسة أن الدولة اللبنانية هي اليوم أمام تحد حقيقي لإثبات قدرتها على الوفاء بإلتزامات مؤتمر سيدر، وتحديداً تطبيق الإصلاحات المالية والهيكلية والقطاعية المطلوبة من قبل الدولة والمنظمات الإقليمية والعالمية المانحة التي شاركت في المؤتمر.

وأكدت الدراسة أن السلطات اللبنانية يجب أن تركّز على تكبير قاعدة الاقتصاد الوطني، وذلك من خلال تنشيط حركة القطاعات الاقتصادية الأساسية وتحديداً السياحة، والعقارات، والبناء، والصناعة، والقطاع المصرفي. فالاقتصاد الوطني بحاجة إلى معدلات نمو عالية تلامس 7-8% سنوياً في السنوات القادمة كما حصل في بعض السنوات السابقة، وليس معدلات نمو ضعيفة في حدود 1-2% وهي المعدلات السائدة في السنوات الأخيرة. وإن معدلات النمو الاقتصادي العالية المطلوب تحقيقها هي ضرورية من أجل تقليل معدل البطالة المرتفع حالياً في حدود 20% بشكل عام حسب تقديرات البنك الدولي وفي حدود 30% بين الشباب حسب تقديرات اليونيسف. وزيادة فرص العمل في الاقتصاد الوطني بشكل متواصل خلال السنوات القادمة يشكّل صمّام الأمان للإستقرار الاجتماعي في لبنان.

وأشارت الدراسة إلى أن لبنان بحاجة إلى ترشيد الإنفاق الإستهلاكي، وإلى تحسين الإمكانات التصديرية وضبط نمو الإستيراد الوطني، وفي الوقت ذاته ترشيق حجم القطاع العام، وزيادة الاستثمارات الخاصة والعامة. إذ إن الاقتصاد اللبناني هو إقتصاد إستهلاكي، وهو يعتمد بشكل كبير علىالإنفاق الإستهلاكي للقطاع الخاص الذي يشكّل حوالي 70% من الناتج المحلي الإجمالي، فيما حجم القطاع العام يكبر إذ إن مساهمته الاقتصادية باتت تقارب 26% من الناتج المحلي الإجمالي. هذا في الوقت الذي يساهم الإنفاق الاستثماري الخاص بحوالي 42%، فيما صافي التصدير أو العجز التجاري يساهم سلباً بحوالي 38% من الناتج ذاته.

وتحدّثت الدراسة عن ضرورة تركيز السلطات اللبنانية على السيطرة على عجزين أساسيين يواجهان لبنان، الأول هو العجز الخارجي المتمثل في كبر حجم العجز التجاري نظراً لتفوق قيمة الإستيراد الوطني (23 مليار دولار لعام 2017) على قيمة التصدير الوطني (3 مليارات دولار فقط للعام ذاته). أما العجز الثاني فهو العجز الداخلي المتمثل في عجز المالية العامة للدولة الذي بلغ 3.8 مليارات دولار لعام 2017 بسبب تفوق قيمة النفقات العامة (15.4 مليار دولار) على قيمة الإيرادات العامة (11.6 مليار دولار). علماً بأن الجزء الأعظم من هذه النفقات وتحديداً نحو 92% هي نفقات جارية غير منتجة لأنها تتوزع بين رواتب وأجور القطاع العام، وتحويلات مالية إلى مؤسسة كهرباء لبنان، وفوائد على الدين العام. وهذه العجوزات المالية تغذي نمو الدين العام الذي قارب 80 مليار دولار في نهاية العام 2017 والذي ينمو سنوياً بأكثر من 5-6%. وتعتبر نسبة هذا الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي مرتفعة وهي تقارب 150%، كما أن نسبة العجز المالي إلى هذا الناتج تعتبر هي الأخرى مرتفعة وهي بحدود 8% كما في نهاية العام 2017.

وشددت الدراسة على أهمية زيادة الإستثمارات العامة والخاصة في قطاعات البنية التحتية مثل الكهرباء والاتصالات والطرقات والمياه وغيرها،من أجل تحديثها وتطويرها لكي تلعب دوراً مساعداً في تحريك معدلات النمو الاقتصادي صعوداً. علماً بأن قطاع الكهرباء يحتاج إلى إصلاح حقيقي، حيث صرف عليه أكثر من 13 مليار دولار منذ العام 1991 وما زال يستنزف مالية الدولة العامة، حيث إن تحويلات الدولة لمؤسسة كهرباء لبنان بلغت نحو 1.3 مليار دولار لعام 2017 أي حوالي 34% من أصل قيمة العجز المالي ونحو 8.4% من قيمة النفقات العامة، وهو بالتالي يغذّي نمو الدين العام. ومن الضروري زيادة الإستثمارات العامة والخاصة في قطاع الكهرباء، وتحديداً في إنشاء وحدات إنتاجية جديدة من أجل زيادة عرض الطاقة الكهربائية لتلبّي إحتياجات الطلب المتزايد عليها. كذلك فإن قطاع الاتصالات، المفترض أن يوفّر للخزينة العامة إيرادات كبيرة، لا يؤمّن أكثر من 1.3 مليار دولار أي نحو 11.2% من الإيرادات العامة. وإن إصلاح قطاع الاتصالات يتطلب تحريراً له بحيث تزداد المنافسة بين شركات القطاع الخاص التي ستدخل إليه، وتساهم في تحديث وعصرنة وتطوير هذا القطاع الحيوي ومساهمته الإقتصادية.

وشددت الدراسة على ضرورة قيام السلطات اللبنانية بإجراءات وتدابير حازمة وجدّية وفعّالة من أجل ضبط وتقليل الفساد، والتهرّب الضريبي (المقدّر بحوالي 4 مليارات دولار أو أكثر من 7% من الناتج المحلي الإجمالي)، والتهرّب الجمركي، وأيضاً معدل الجباية المتدني للأموال العامة وخصوصاً في قطاعات المياهوالكهرباء (المقدّر بحوالي 40% فقط للكهرباء). ومما لا شك فيه أن هذه المصادر تفوّت على الاقتصاد اللبناني موارد مالية يمكن أن تدعم المالية العامة للدولة والناتج المحلي الإجمالي ونموه.

وشددت الدراسة على أهمية تنبّه السلطات اللبنانية لمفاعيل إمكانية زيادة معدلات التضخم في السنوات القادمة، عند ضخّ أموال سيدر (في حال تطبيق الإصلاحات المطلوبة) في الاقتصاد الوطني، وفي حال تم رفع معدلات بعض الضرائب الحالية مثل الضريبة على القيمة المضافة والضريبة على المحروقات وتطبيق تعرفات جديدة في قطاعي الكهرباء والمياه. أضف إلى ذلك تكاليف سلسلة الرتب الرواتب، المقدّرة بحوالي 1.8 مليار دولار بدلاً من 800 مليون دولار كما كان متوقعاً في البداية. وكذلك لمفاعيل إمكانية زيادة معدلات الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، حيث إن نحو 93% من مساعدات سيدر هي في شكل قروض و7% فقط في شكل هبات. فمعدلات التضخم العالية تصيب مفاعيلها القطاعات الاقتصادية والنمو الاقتصادي ومستوى المعيشة.

وأكدت الدراسة على أهمية تركيز الدولة على إطلاق المشروعات الاستثمارية الخاصة في قطاع النفط والغاز في أسرع وقت ممكن، لأن من شأن ذلك تنويع البنية الاقتصادية، وزيادة مصادر الدخل الوطني وأيضاً الدخل الفردي، وبالتالي تمتين ركائز الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في لبنان مستقبلاً.