لا يُمكن إنكار واقع أن تخفيض ​عجز الموازنة​ هو إنجاز سجّلته حكومة الرئيس ​سعد الحريري​ مقارنة بالمشروع الأول الذي طرحته الحكومة ومقارنة بأرقام العام الماضي. إلا أن تثبيت هذا الإنجاز يبقى رهينة الإلتزام بسقف العجز المُعلن وعدم تخطّيه تحت أية أعذار.

نعم​ إنه إنجاز كبير و​رقم قياسي​ قامت به الحكومة بإقرارها مشروعي موازنات 2017 و2018 في فترة لا تزيد عن ستّة أشهر. القوى السياسية الموجودة في السلطة هي نفسها التي تحكم ​لبنان​ منذ العام 2005 (عام أخر موازنة) فترة لم تُقرّ فيها أية موازنة وبقي الصرف على أساس القاعدة الإثني عشرية حتى أواخر العام 2017 حيث تمّ التصويت على موازنة العام نفسه قبل أن يُقرّ مشروع موازنة العام 2018 في الحكومة.

خلال هذه الفترة (2005-2016) تراكم العجز في الموازنة مع 41.7 مليار دولار أميركي على هذه الفترة، وتحوّل قسم كبير من هذا العجز إلى دين عام بحكم أن النمو الإقتصادي لم يكن كافٍ لإمتصاص العجز وإرتفع ​الدين العام​ من 38 مليار دولار أميركي إلى أكثر من 76 مليار في العام 2016 و80 مليار في العام 2017.

الإنزلاق المالي كان سببه الإفراط في الإنفاق خصوصًا أن المالية العامّة كانت تحت التأثير السلبي لعاملين أساسيين: الأول إزدياد الفجوة بين ​سعر الفائدة​ الحقيقي ومُعدّل النمو، والثاني ضعف الميزان الأوّلي وتسجيله عجزًا في بعض الأحيان.

هاذين العاملين ساعدا في زيادة الدين العام من خلال ​آلية​ التفاعل الميكانيكية بين العجز وخدمة الدين العام. وفي التفاصيل أن الإنضباط المالي للدوّلة يمر عبر قيود على موازنة الدوّلة من خلال إعتبار أن تمويل النفقات الإجمالية لكل سنة مالية يتمّ من خلال الضرائب أو ​إصدار سندات​ خزينة. أي بمعنى أخر أن الإصدارات الجديدة والإيرادات الضريبية تذهب لتمويل خدمة الدين العام و​الإنفاق العام​ وبالتالي فإن إرتفاع الإنفاق رفع من الإصدارات بحكم أن الإيرادات الضريبية تتعلّق بالنشاط الإقتصادي الذي يُعاني من ركود منذ العام 2011 (بدء الأزمة السورية). وإرتفاع الإصدارات تزيد حكمًا من خدمة الدين العام مما يعني زيادة الإصدارات وهكذا دواليك.

إذن يظهر إلى العلن أن ​توازن​ المالية العامّة ليس المؤشّر الوحيد للسياسة المالية المُتبعة من قبل الحكومة لأن الموازنة تتأثر بسياسة ​الديون​ للسنين الماضية (خدمة الدين العام) والوضع الإقتصادي الآني في الدوّرة الإقتصادية وذلك بمعزلّ عن الخيارات الهيكلية في الموازنة أي الثنائي مُعدّل الضرائب – ومستوى الإنفاق.

أرسى وجود رئيس الجمهورية ميشال عون إنتظامًا واضحًا في عمل المؤسسات الدستورية وأصبحت الإستحقاقات المالية تأخذ حيزًا أعلى في إهتمامات الدولة دون أن يكون هناك معالجة جذرية للعجز المزّمن. لكن ضغوطات المُجتمع الدولي وخصوصًا المنظّمات الدولية (IMF, World Bank) وتحت وطأة المؤتمرات الداعمة الثلاث (سيدر 1، ​روما​ 2، وبروكسل) دفعت بالحكومة إلى بدء مقاربة الموازنة بطريقة أكثر صحيّة مما كانت عليه سابقًا.

المقاربة التي إعتمدتها الحكومة هي مقاربة مبنية على لجم العجز الذي يُعتبر المُحرّك الأساسي للإنزلاق المالي. وبالتالي قامت ب​خفض الإنفاق​ من خلال خفض إعتمادات الإنفاق الجاري (دون المسّ بالرواتب) للوزارات والمؤسسات العامّة وإعتمدت إستراتيجية الـ leasing للمباني المُستأجرة على فترة 5 سنوات (المفعول سيظهر في السنين القادمة) وأعادت جدّولة بعض المُستحقات من مشاريع وعقود كانت تستحق هذا العام على الأعوام القادمة، أضف إلى ذلك الخفض في إحتياط الموازنة.

من جهة الإيرادات قامت الحكومة بخطوة جرئية (حتى ولو صنّفها البعض بالمشبوهة) وهي تسوية أوضاع المُكلّفين بضريبة الدخل. هذه الخطوّة من شأنها جلب أموال هائلة قدّرتها الحكومة بـ 200 مليون دولار أميركي ولكن بإعتقادنا هذا الرقم قد يفوق الثلاثة أضعاف.

هذه الخطوّات ستؤدّي حتمًا إلى خفض العجزّ ويمكن ​تصنيف​ خفض الإنفاق، الـ Leasing، وتسوية أوضاع المُكلّفين بضريبة الدخل بالخيارات الإصلاحية. لكن هذه الخطوات الإصلاحية تبقى رهينة إلتزام الحكومة بسقف الإنفاق الذي وضعته لنفسها في مشروع الموازنة.

على هذا الصعيد، نعلم أن تخطّي سقف الإنفاق قد يأتي من بند كتلة ​الأجور​ إذا لم يتمّ وقف ​التوظيف​ العشوائي، كما ومن بند ​الكهرباء​ خصوصًا إذا ما إرتفعت ​أسعار النفط​ عالميًا. وقد يتمّ ترحيل الإنفاق الإضافي الناتج عن هذين البندين إلى العام المُقبل وفي هذه الحال فإن عجز الموازنة في العام 2019 سيكون حكمًا أكبر.

ويبقى السؤال عن الواقع الحقيقي للمالية العامّة في ظل غياب قطع الحساب والذي تعهدت الحكومة بإرساله إلى المجلس النيابي في فترة لا تتعدّى العام من تاريخ إقرار موازنة العام 2017. لذا نرى أن المجلس النيابي يقف اليوم أمام إستحقاق تاريخي لمصداقيته من ناحية مراقبة ومحاسبة الحكومة وعليه أن يؤدّي دوره عبر:

أولًا – التشديد على إقرار قطع الحساب في أقرب وقت مُمكن؛

ثانيًا – عدم تغطية الحكومة من خلال إقراره إعتمادات من خارج الموازنة.

في الختام لا يسعنا القول إلا أن المجّلس النيابي الذي ستُخرجه إنتخابات 6 أيار النيابية، سيحمل مسؤولية كبيرة تجاه الوطن والمواطن. فليكن هذا المجلس مجلس الكرامة والعزّة الوطنية من خلال إعطائه الثقة إلى حكومة تكون مُتجانسة وفعّالة قادرة على النهوض بلبنان تحت ​رقابة​ رئيس الجمهورية.