يترقّب اللبنانيون إقرار الموازنة في المدة القصيرة التي تفصلنا عن مؤتمر "سيدر" المقرر انعقاده في نيسان المقبل في العاصمة الفرنسية ​باريس​. وفي ظل الحديث عن تم اعتماد تخفيض الإنفاق بنسبة 20% كأساس، يبقى نجاح المؤتمر الدولي تنفيذ إصلاحات إقتصادية وإنمائية وإدارية تمنح ​الدولة اللبنانية​ ثقة الدول المشاركة.

ولمعرفة المزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع كان لـ"الإقتصاد" هذا اللقاء مع المدير العام المساعد ورئيس قسم الأبحاث لدى "​بنك عودة​"، د. ​مروان بركات​:

أظهرت بعض الأرقام خلال الأسبوع الماضي أداءً إيجابياً للبنان إن كان على الصعيد النقدي وزيادة ​الودائع​ ​المصرفي​ة، إلى الأداء المقبول لميزان المدفوعات، ما هي أسباب هذا الأداء وخاصةً أننا لم نشهد تغييرات جذرية بعد؟

بدأت السنة الحالية بتطورات أكثر مؤاتاة على الصعيد النقدي والمصرفي. فقد ارتفعت الموجودات الخارجية لمصرف لبنان بمقدار 1.4 مليار دولار خلال الشهرين الأولين من العام الحالي جراء ​التحويلات​ الصافية من الوفورات بالعملات الأجنبية إلى وفورات بالليرة اللبنانية.

وعلى الصعيد المصرفي، شهد شهر كانون الثاني المنصرم (آخر الإحصاءات المتوفرة) نمواً مؤاتياً في الودائع المصرفية بالمقارنة مع الأداء الواهن نسبياً الذي شهده شهر كانون الثانيخلال السنوات القليلة السابقة. فقد نمت الودائع المصرفية بقيمة 475 مليون دولار في كانون الثاني 2018، في حين تقلصت بقيمة 182 مليون دولار في المتوسط خلال شهر كانون الثاني من السنوات الخمس السابقة.والجدير ذكره أن النمو الإجمالي للودائع المصرفية خلال شهر كانون الثاني تأتى بشكل كامل عن نمو الودائع بالليرة اللبنانية وذلك في سياق تحويلات صافية من الوفورات بالعملات الأجنبية إلى وفورات بالليرة اللبنانية والمدعومة بأسعار الفوائد المرتفعة من جهة، والآفاق المستجدة لمؤتمر باريس 4 لدعم لبنان من جهة أخرى.

في المقابل، شهد ميزان الدفوعات أداءً مؤاتياً نسبياً خلال شهر كانون الثاني، بحيث سجل الميزان فائضاً بقيمة 237 مليون دولار في كانون الثاني 2018 بالمقارنة مع عجز بقيمة 96 مليون دولار في المتوسط خلال كانون الثاني من الأعوام الخمس السابقة. وقد نجم هذا الفائض في ميزان المدفوعات عن نمو ملحوظ في الموجودات الصافية لدى مصرف لبنان قابله بشكل جزئي تقلص في الموجودات الخارجية الصافية لدى ​المصارف التجارية​.

أما الإحصاءات الأولية المتوفرة لشهر شباط فتشير إلى أن المنحى المؤاتي للشهر الأول من العام انسحب على الشهر الثاني منه. يبقى القول أنه من أجل مواصلة هذا الوضع المؤاتي نقدياً ومصرفياً، يجب إرسال إشارات إيجابية إلى الأسواق من قبل السلطات العامة في البلاد لاسيما في ما يتعلق بالإصلاح المالي وبذل كافة الجهود المرجوّة لإنجاح مؤتمر باريس 4.

هل تعتقد أن ​الوضع المالي​ سيعود إلى المسار الصحيح بإقرار ​الموازنة العامة​؟

مع ​إطلاق​ جلسات مناقشة الموازنة العامة للعام 2018، هنالك فرصة لاتخاذ القرار السياسي المرجو على صعيد الإصلاح المالي، لاسيما وأن الموازنة العامة في المطلق ليست فقط وسيلة لحصر احتياجات الحكومة وإيراداتها، بل لها وظائف جوهرية أخرى وبالأخص استخدامها كوسيلة لضبط ​السياسة المالية​ للبلاد ولتحقيق أهداف الدولة وتنفيذ سياستها الاقتصادية.

في هذا السياق، نرى أن المناقشة التي نشهدها للموازنة العامة بحد ذاتها ليست كافية إذ يجب أن تترافق مع تقدم مرجو على مسار الاصلاحات الهيكلية التي طال انتظارها من الاصلاحات الاقتصادية إلى المالية والإدارية منها، والتي من شأنها أن تعزز ​النمو الاقتصادي​ وتحفّز كل من الإنتاجية والعجلة الاقتصادية وتحدّ من الاختلالات القائمة على صعيد القطاع الخارجي والمالية العامة. عليه، فإن الاستقامة الاقتصادية واستدامة الاقتصاد الكلّي والأسواق على الأمد الطويل يتطلّبان تعزيز الوضع المالي الذي طال انتظاره لضمان نجاح سيناريو الهبوط الآمن للاقتصاد اللبناني. عندئذٍ فقط يصبح صمود لبنان الاقتصادي قابلاً للاستدامة في ظل مناخ معرّض لصدمات محلية وخارجية ومتّسم بأجواء ضبابيّة بشكل عام.

هل توافق على ما تضمنه بيان ​صندوق النقد الدولي​، حيث طالب بزيادة الضرائب؟

بدايةَ لم يتضمن بيان صندوق النقد الدولي تغييرات جوهرية عن ما صدر في السابق من بيانات وتقارير من قبل الصندوق، وإنما النبرة أصبحت أكثر حدّةً. فالصندوق لا يزال مستمراً في تسليط الضوء على الحاجة الملحة لتصحيح الاختلالات القائمة على صعيد المالية العامة في لبنان والتي لم تعد قابلة للاستدامة. إذ من الطبيعي أننا لا نستطيع أن نستمر مع نسبة مديونية تتخطى الـ150% من ​الناتج المحلي​ الإجمالي، الثالث الأعلى في العالم.غير أن المخارج لا تزال متاحة في بلد تبلغ فيه نسبة الاقتطاع الضريبي 19% من الناتج المحلي الإجمالي مقابل 30% في البلدان النامية و40% في البلدان ​المتقدمة​. إلا أن رفع نسبة الاقتطاع الضريبي يجب أن لايتأتى عن طريق زيادة الضرائب في ظل الوهن الاقتصادي الراهن والضغوط الجمّة على ​القطاع الخاص​، إنما في الواقع عن طريق تعزيز جباية الضرائب والتي لم ترد في بيان صندوق النقد الدولي. فوفق تقديراتنا، يبلغ حجم ​التهرب الضريبي​ حوالي 4.2 مليار دولار سنوياً أي ما يوازي 8% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو متأتي بشكل خاص من ضريبة الدخل والضريبة على القيمة المضافة وفواتير ​الكهرباء​ والتعليقوالرسوم العقارية والجمركية. وبالتالي إذا نجح لبنان في جباية نصف الضرائب غير المحصّلة، في المدى المتوسط، فقد يستطيع حينها ​تقليص العجز​ المالي العام بحوالي 40% في الأفق، خصوصاً إذا ما ترافق ذلك مع إجراءات حسية على صعيد ترشيد ​الإنفاق العام​.

مع إمكانية تحوّل لبنان إلى دولة نفطية، ما هي التأثيرات التي قد يحملها قطاع ​النفط​ و​الغاز​ على ​الاقتصاد اللبناني​؟

مع بدء استخراج النفط والغاز من ​المياه​ اللبنانية، بإمكان لبنان حينها أن ينتقل من حالة إلى حالة مختلفة تماماً. إذ أن تحوّل اعتماد مرافق توليد ​الطاقة​ في لبنان من النفط إلى ​الغاز الطبيعي​ من شأنه أن يسهم في تقليص مهم للعجز المتمثل في إمدادات الطاقة والذي يتجاوز حالياً المليار دولار سنوياً.كما وأن الموقع الاستراتيجي للبنان يمنحه خيارات تصديرية متنوعة على المدى الطويل،إذ يمكن تصدير الموارد النفطية باتجاه تركيا أو أوروبا من خلال خطوط أنابيب الغاز أو سفن الغاز الطبيعي المضغوط، أو باتجاه آسيا من خلال ​ناقلات​ الغاز الطبيعي المسال، أو نحو ​سوريا​ والمناطق المجاورة من خلال تصدير الكهرباء. هذا ومن المتوقع أن يستمر الإنتاج لمدة 35 عاماً، لتبلغالطاقة الإنتاجية الكاملةبحلول العام 2036 وفق صندوق النقد الدولي. هذاوبالنظر إلى أن أفق الموارد النفطيةتُعدّ طويلة الأمد، فإن إدارة التقلبية في هذا القطاع ينبغي أن تكون محور التركيز الرئيسي للمالية العامة في الأفق.

في هذا السياق، سيكون لاستخراج النفط آثارغير مباشرة على عدد من الصناعات والتي تخلق العديد من فرص العمل والتوظيف في خدمات التطوير العقاري و​الفنادق​ وخدمات ​التأمين​ و​الخدمات المالية​ وغيرها.ووفقاً لتوقعاتنا، فإن الناتج المحلي الإجمالي اللبناني في ظل سيناريو ​إنتاج النفط​ والغاز قد يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي العادي بما لا يقلّ عن 30% في الأفق. عليه، إن ​قطاع النفط​ والغاز يجسّد فرصة حقيقية لتوفير سيناريو الهبوط الآمن للاقتصاد اللبناني ولأوضاع المالية العامة الهشة.ولكن هذا لا يعني أنهبمقدرة السلطات المعنية أن تنتظر عائدات هذا المشروع الطويل الأجل دون إطلاق الإصلاحات الملحّة، فهنالك حاجة ماسة للبدء بإصلاحات هيكلية لوضع الاقتصاد على مسار النمو المستدام على المدى القصير والمتوسط لضمان استمرار الصمود النسبي الذي عرفه لبنان على مدى العقدين الماضيين.