مما لا شّك فيه أن وضع المالية العامّة دخلّ مرحلة الإنزلاق إلى الكارثة مع تعاظم العجز والدينّ العام بشكل غير مسبوق. ويبقى السؤال كيف ستحلّ الحكومة مُشاكلها المالية في ظل غياب أي هامش فعلي. فهل يكون سلامة هو المُنقذ؟

بدأت مفاعيل الإدارة المالية السيئة للدوّلة اللبنانية على مرّ عقود بالظهور بشكل حاد ستأخذ طابع فعلي على الأرض في الأشهر القادمة على شكلّ رفع ​ضرائب​، رفع الدعم على السلع والخدمات، والخصخصة. وتأتي أرقام العجز المُتوقّع هذا العام لتتخطّى الثمانية مليارات دولار أميركي بموازاة إستحقاق العديد من الإلتزامات المالية للدوّلة اللبنانية (إستحقاقات دين عام + خدمة دين عام) بقيمة 7.9 مليار دولار أميركي، لتزيد من تعقيد الوضع. مما يعني أن الدوّلة اللبنانية ستحتاج إلى ​إصدار سندات​ بقيمة لا تقلّ عن 10 مليار دولار أميركي (20% من الناتج المحلّي) وهذا الأمر سيكون تحدٍ هائل في تاريخ الدوّلة اللبنانية من ناحية الحجم والظروف التي تواكبه.

الإصلاحات آتية لا محالة إن كانت بخيار اللبنانيين أو مفروضة عليهم من المُجتمع الدولي والسبب يعود إلى أن الإستمرار على هذا الوضع كما هو عليه سيؤدّي حتمًا إلى إفلاس الدوّلة اللبنانية.

الإصلاحات المنشودة لا يُمكن أن تمرّ في مرحلة ما قبل الإنتخابات النيابية نظرًا إلى المزايدة الشعبوية التي تنمّ عن عدم معرفة الواقع وعدم أهلية العديد من المعنيين لتمثيل مصالح الأمّة. وهنا يتوجّب ذكر أن هناك فارق بين الإصلاحات التي يطلبها المواطن وتطال بالدرجة الأولى محاربة ​الفساد​ ووقف الهدر و​تحديث​ الأنظمة وبين الإصلاحات المطروحة على الطاولة حاليًا وهي رفع الضرائب، رفع الدعمّ عن السلع والخدمات وخصخصة ​القطاع العام​.

الجدير ذكره أن ​الدين العام​ وصل إلى أرقام قياسية أبرز محطاتها: 3.4 مليار دولار أميركي في العام 1993، 38 مليار دولار أميركي في العام 2005، و80 مليار دولار أميركي في العام 2017.

البنود الثلاثة التي تحتلّ المرتبة الأولى مع 75% من ​الإنفاق العام​ هي: بند " ​الأجور​ والتعويضات والتقاعد"، بند "خدمة الدين العام"، وبند "دعم مؤسسة ​كهرباء لبنان​". وهذه البنود من الصعب تخفيضها دون تداعيات إجتماعية قاسية.

أمّا رفع ال​إيرادات​ فلا يُمكنّ إلا من خلال ما سبق ذكره أي رفع الضرائب (ليست من مصلحة السياسيين في هذه المرحلة)، رفع الدعمّ عن السلع والخدمات (مثل ​الكهرباء​، ​المازوت​، القمح...) وخصخصة القطاع العام.

خصخصة القطاع العام هو من الأمور التي تكون أكثر جدّية في طرح رفع إيرادات الدوّلة اللبنانية، إلا أن هذا الأمر لن يجلب للدوّلة اللبنانية القيمة السوقية الحقيقية للأصول التي يتمّ طرحها للبيع خاصة في ظلّ وجود فساد وعجز مالي في هذه المرافق العامّة. كما أن الوضع الإقتصادي العام ليس بمحفّز لجذب مُستثمرين أقلّ ما يُقال أنهم يُفضلون السيولة في هذه الأوقات. وهنا يكمن خطر خصخصة هذه المرافق التي قد تذهب إلى أيادي بعض المُستفيدين بأسعار زهيدة في ظل عدم إكتراث من المُستثمرين الجدّيين.

أمّا العمل على خفض خدمة الدين العام، فهو من أكثر الطروحات الجدّية على الطاولة لخفض الإنفاق. وهنا يُطرح السؤال عن الآلية لهذا الخفض وما هو ثمنها؟

الإطار الإقتصادي العامهو بإتجاه إرتفاع الفوائد وليس بخفضها، لذا وبفرضية شراء الإستحقاقات المالية الحالية بهدف تمويلها بإستحقاقات أقلّ كلفة، هناك إستحالة الحصول على أسعار فائدة أقلّ مما هو موجود حاليًا.

الطلب إلى ​المصارف​ لن يُجدي نفعًا إلّا إذا عزفت الحكومة عن فرض ضريبة الـ 7% على حسابات المصارف في المصرف المركزي وفي سوق الـ Interbank. وحتى في ظل هذه المُقايضة، لن تكون الأمور سهلة التحقيق لأن كلفة إستقراض الأموال على المصارف تبقى عالية نظرًا إلى المخاطر السيادية التي تعصف بلبنان.

وهنا تتجه الأنظار إلى ​مصرف لبنان​ وحاكمه ​رياض سلامة​ لمعرفة ما يُمكن القيام به من مبادرات لتخفيف كلفة خدمة الدين العام. وقد يكون لسلامة طروحات مهمّة على هذا الصعيد إلّا أن أحدًا منها لن يكون دون كلفة.

سلامة والتسييل الكمّي

التسييل الكمّي هو عبارة عن شراء ​سندات الخزينة​ للدوّلة من قبل المصرف المركزي. هذا الطرح السهل له عواقب جمّة كثيرة خصوصًا إذا ما إستمرّت آفة الفساد والهدر المالي في الدوّلة لأنه يعني بكل بساطة إغراق المصرف المركزي.

التسييل الكمّي هو إجراء غير مُحبذّ في الإقتصاد وقد عمدت إليه بعض الدول الكبرى مثل الولايات المُتحدة الأميركية خلال الفترة التي تلت أزمة 2008 العالمية لتفادي الكارثة لكنّها أرفقته بالكثير من الإصلاحات الإقتصادية، المالية والإدارية.

التداعيات على الإقتصاد الحقيقي كبيرة ويُمكن تلخيصها بالتالي:

أولًا – التدعيات على الإقتصاد: التسييل الكمّي هدفه التأثير في الأماكن حيث لا يُمكن للسياسة النقدية التأثير أي على الفوائد على الآمد البعيد. فشراء سندات على إستحقاقات 10 سنوات أو أكثر يُخفّض الفائدة على كل الإستحقاقات وتُعطي الشركات والمصارف شروط أفضلّ للتموّل. أيضًا من تداعياته تحفيز المُستثمرين على التخلّي عن أصول آمنة لصالح المصرف المركزي حيث يعمدون تلقائيًا إلى التوجّه إلى أصول أكثر خطرًا مما يعني تمويل الإقتصاد وبالتالي هناك تأثير سلبي على سعر صرف العملة وعلى مستوى ​التضخم​ّ.

هذه التداعيات تبقى نظرية بحكم أنها تنطبق على الإقتصادات التي تتموّل من الأسواق وليس التي تتموّل من المصارفك​الإقتصاد اللبناني​.

ثانيًا – التداعيات على المصارف: في الواقع التداعيات على المصارف للتسييل الكمّي في حال الإقتصادات التي تتموّل من الأسواق، يبقى أثرها محدودًا على المصارف. لكن في حال لبنان الذي تموّل المصارف أكثر من نصف دينه العامّ فإن التداعيات ستكون شبه تلقائية مع تراجع عائداتها من محفظة السندات.

ثالثًا – التداعيات على الطلب: إن خفض الفوائد على الآمد الطويل، سيُغذّي بدون أدنى شكّ فقاعة في الإقتصاد اللبناني إلا إذا تمّ تحفيز الإستثمار في نفس الوقت مما يعني أن الطلب سيأتي ليُغذّي مداخيل الإستثمارات.

رابعًا – التداعيات على التضخّم: يُعتبر التسييل الكمّي نسخّة مُحدّثة من طبع العملة. وإذا كان التسييل الكمّي يؤدّي نظريًا إلى رفع التضخمّ، إلا أن التجربة الأميركية أثبتت أن تأثيره على التضخم يبقى محدود عمليًا. لكن في حالة لبنان هناك إحتمال كبير أن تؤدّي هذه الأموال إلى تغذية الفقاعات في بعض القطاعات الإقتصادية.

خامسًا – التأثير على السعر صرف العمّلة: التحليل المنطقي ينصّ على أن التسييل الكمّي يؤدّي إلى إضعاف العملة وهذا الأمر يذهب بعكس سياسية حاكم مصرف لبنان الذي يُشدّد على تثبيت سعر صرف الليرة في ظل التخبطّ السياسي والإقتصادي والمالي الذي تعيشه الدّولة اللبنانية.

من هذا المُنطلق، نرى أن التسييل الكمّي سيكون محدود المفاعيل إذ سيُنقذ الدوّلة من الإفلاس لكنه سيؤدّي إلى تداعيات إقتصادية وإجتماعية جمّة تبقى معها الإصلاحات الجذرية أفضل حلّ. فهل يحمل ​حاكم مصرف لبنان رياض سلامة​ حلًا سحريًا في جعبته قد يُنقذّ ​الدولة اللبنانية​ ويحفظ الإقتصاد من تداعيات تدهور المالية العامّة؟ الجواب لن يتأخر كثيرًا.