مع انعقاد مؤتمر الاستثمار في البنى التحتية في ​لبنان​، برعاية رئيس ​مجلس الوزراء​ سعد الحريري، من تنظيم مجموعة الاقتصاد والأعمال، بالاشتراك مع مكتب رئاسة مجلس الوزراء، يبدو ان الحكومة تعد العدة لمجموعة من المشاريع لتقديمها الى مؤتمر سيدر في باريس، أملا بالحصول على تمويل يسمح باعادة تأهيل وبناء البنى التحتية المترهلة ، وذلك من خلال شراكة ما بين المجلس الأعلى للخصخصة، و​الهيئات الاقتصادية​ اللبنانية، ومؤسسات التمويل التنموي العربية والدولية، بالاضافة الى مجتمع الاعمال من رؤساء شركات و​مصارف​ ومستثمرين لبنانيين وعرب وغيرهم .

الفكرة جيدة وخصوصا ان الدولة عاجزة عن توفير الحد الأدنى من التمويل اللازم لتجهيز المرافق العامة و​تحديث​ها، في ظل ​عجز الموازنة​ وارتفاع ​الدين العام​ والارتفاع الكبير في ​الإنفاق الحكومي​، بسبب تضخم ​القطاع العام​، وقد أضيفت الى كل ذلك ازمة سلسلة الرتب والرواتب واعبائها، والتي لم تنته فصولا بعد، مع استمرار ازمة المدارس الخاصة. في حين ان ​القطاع الخاص​ اللبناني قادر على تأمين التمويل اللازم، ويمكن القول من دون مبالغة ان مشاركته الفاعلة يمكن ان تغني عن القروض الخارجية، اذا تأمنت الظروف الطبيعية للاستثمار في لبنان.

في المقابل فانه من من الواضح ان القطاع العام في الدولة غير قادر على القيام بهذه المشاريع لانه مترهل وجامد بفعل ارتباطه بنظام سياسي طائفي تحاصصي جعل ادارات الدولة مناطق نفوذ لهذا الزعيم او ذاك، ولا يمكن البحث في ​اصلاح​ القطاع العام طالما بقي النظام السياسي على حاله، وهو في كل الاحوال نظام عصي على الإصلاح، وبالتالي لا يمكن المراهنة على فرص النهوض الاقتصادي ما لم تتولَّ المبادرة الفردية مسؤولية تمويل تكاليف خطة التنمية.

من جهة ثانية فان القطاع الخاص اللبناني حذر ولا يثق بالقطاع العام وبالسلطة السياسية، ويخشى جديا من ضياع استثماراته في غياهب صراعات النفوذ بين القوى السياسية المختلفة، ولعل في تجربة خصخصة ادارة بعض المرافق العامة، مثل الهاتف الخليوي وقطاع توزيع الكهرباء، والتدخلات السياسية الفاضحة والمعطلة فيهما، يجعلان الحذر اكثر تجذرا.

لذلك فان الشراكة المفترضة بين القطاعين العام والخاص ينبغي ان تبدأ على أسس واضحة تحدد الأدوار التي ستوكل إلى كل من القطاعين، وبصياغة الأطر القانونية والمؤسساتية والتنظيمية لرعاية العلاقة بين القطاع الخاص والدولة بشفافية ومهنية من دون ارتهان أو تسلط ومن دون استباحة أو استغلال.

ومن غير المجدي المراهنة على صحة واستقامة التعاون بين القطاع العام والقطاع الخاص ما لم تتولّ إدارة هذه العلاقة هيئات وأجهزة حيادية ونزيهة ومتحررة من الارتهان للمواقع السلطوية الطائفية.

هذا على المستوى السياسي، أما في الجانب الاقتصادي البحت، فينبغي التأكيد على ان معالجة تردي المرافق العامة لا يمكن ان تنجح من دون مشاركة القطاع الخاص في استدامة تشغيل هذه المرافق وتطويرها بموجب الأطر المؤسساتية المطلوب إقرارها، كي لا تتكرر التجربة السابقة ، بعودة المرافق العامة الى ادارة قاصرة عن صيانتها والحفاظ عليها وتطويرها. وفي المقابل، من غير المجدي، ومن غير المنصف، متابعة دعم تكاليف الخدمات التي تنتجها المؤسسات العامة (مثل الكهرباء) بحيث تستفيد الفئات الميسورة من غالبيّة هذا الدعم.ولا بد من إعادة النظر بتعرفة هذه الخدمات وموازنتها مع التكاليف الحقيقية وتحريرها من الدعم.

لا مجال لنجاح خطة النهوض الاقتصادي المأمولة في لبنان ما لم يحصل توافق واضح وصريح وملزِم يحدِّد المسؤوليات والأدوار المتمايزة، لكن المتكاملة، لكلّ من القطاعين الخاص والعام؛ وما لم يتبدل مناخ الحذر وانعدام الثقة السائد بين الفريقين الموروث من تداعيات عهود مضت، ومن الارتجال والتسيّب في إدارة العلاقة بينهما.

لقد تحولت مؤسسات القطاع العام الى ملكية المواقع الطائفية، وخضعت لمنطق التحاصص القائم على إهدار المال العام، ما أدى إلى استنزاف الموارد المتوفرة، وإلى شلل قدرات الدولة وحشرها في منزلق خطر لا يمكن الإنطلاق منه في عملية النهوض.

ومن جهته يعاني القطاع الخاص من الإحباط ومن وهن في المبادرة، من جراء التجارب السابقة .ولا سبيل لإعادة الثقة بين "بيئة الأعمال" والدولة، ما لم تحدَّد الأدوار والمسؤوليات لكلّ من القطاعين العام والخاص بشكل دقيق وثابت ومتَّفق عليه، بحيث تتولّى الدولة مهامها المدنية والعسكرية ومسؤوليات الرعاية الاجتماعية وشبكات الأمان الاجتماعي، كما تتولّى مسؤولية إنشاء وصيانة ما بإمكانها تمويله من فائض التنمية للبنى التحتية الضرورية للسكن ولتسهيل الأعمال. في المقابل، يتولى القطاع الخاص مسؤولية تحديث وتطوير المرافق العامة، تمويلًا وتشغيلًا واستثمارًا، لتلبية حاجات المبادرة الفردية المعوّل عليها لتنمية القطاعات الإنتاجية، مما يوفر فائض التنمية المعوَّل عليه لتمويل إنفاق الدولة في المجالات المدنية والعسكرية ولتوفير فرص العمل المناسبة للقوى العاملة.

تبقى نقطة اساسية وجوهرية لنجاح عملية اعادة ​اعمار​ البنى التحتية في لبنان، وهي تتعلق بالتخطيط، وهنا نذكر ما أورده الدكتور ​نزار يونس​ في كتابه "جمهوريتي "، فيقول: "لبنان، أرضًا وشعبًا، مساحةً وتعداد سكان –مثله مثل أي مدينة متوسطة الحجم - قد لا يحتاج ولا يحتمل، هذا العدد من الوزارات والإدارات والهيئات والمؤسسات والمصالح والمجالس، وهذا العديد من الموظفين والمتعاقدين و​المياومين​ والمنتدبين والمستشارين والخبراء. لكنه، وكأي ​كيان​ اقتصادي واجتماعي، يحتاج في سبيل تنمية موارده واستقرار اجتماعه إلى جهاز مدرك يعي الحاضر بكل تعقيداته، ويحمل رؤيةً ووضوحًا للمستقبل بكل تحدياته ليُعدّ خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وجدوى الإنفاق وأولوياته، واستراتيجية التجهيز المُدني وتطوير البنى التحتية الملائمة للسكن وللأعمال، في ​ضوء​ الحاجات والإمكانيات المتوفرة. وهذا الجهاز مهيّأ لرسم الأدوار المطلوبة من كلٍّ من القطاعين العام والخاص، ولاستشراف الوسائل الناجعة لتعاونهما وتكامُلهما لتحقيق أهداف التنمية، من دون تشابك أو تضارب في الصلاحيات أو المصالح ومن دون إضاعة المسؤولية أو التهرّب منها".

هذا الجهاز هو وزارة ​التصميم​ العام او التخطيط ، التي أنشئت لاول مرة في عهد الرئيس كميل شمعون، واستعادتها الحكومة الحالية، مع تعيين وزير دولة لشؤون التخطيط، ولكن من دون وزارة .

فهل تشكل الورشة الجديدة لاعادة اعمار البنى التحتية مناسبة لاحياء وزارة التصميم كي تقوم بدورها كاملا في ادارة عملية الانماء الجدي والمطلوب بعيدا عن مطامح ومطامع السياسيين؟