مجددا يتراجع ​لبنان​ الى المرتبة 143 عالميا من اصل 180 دولة على مؤشر مدركات ​الفساد​ لعام 2017 الصادر عن "​منظمة الشفافية الدولية​" ، ولبنان الذي احتل المركز 13 عربيا من اصل 21 دولة ، لم يشفع له اقرار ثلاثة قوانين رئيسية عام 2017 تعزز الشفافية، ابرزها قانون الحق في الوصول الى المعلومات، قانون ​انتخابات​ جديد وفق النظام الإنتخابي النسبي، وقانون ال​موازنة​ العامة للمرة الأولى منذ العام 2005، اضافة الى انضمام لبنان الى مبادرة الشفافية في الصناعات الإستخراجية، فقد تأثرت هذه الخطوات الإصلاحية بالكثير من الشوائب ادت الى انخفاض الثقة في امكان تطبيقها الفعلي.

بكلام آخر فان القرار السياسي لم يتخذ بعد للقضاء على مكامن الفساد الذي يكلف لبنان 10 مليارات دولارات سنويا ، ويفاقم ​الدين العام​ الذي ناهز الثمانين مليار دولار ، وباتت خدمته تستهلك 71 في المئة من العائدات الضريبية و10 في المئة من ​الناتج المحلي​ ، كما يعلن وزراء وخبراء تكرارا ، فماذا ينتظر اهل الحكم ؟

هذا التصنيف السيء يأتي في خضم التحضيرات لعقد مؤتمرات دولية في ​روما​ و​باريس​ و​بروكسل​ لبنان ، وفي وقت تستعجل الحكومة لانجاز مشروع الموازنة وارساله الى المجلس النيابي خلال ايام لاقراره بسرعة ، وقبل حلول مواعيد هذه المؤتمرات. ومن المرجح ان يُواجه لبنان باسئلة جدية عن الاجراءات التي سيتخذها لضمان الشفافية في انفاق المساعدات والهبات وصرف القروض في مجالات استثمارية مفيدة . وهذا ما واجهه العراق في مؤتمر ​الكويت​ قبل اسبوعين من قبل الدول المشاركة . وقد أدى ذلك الى خفض التقديمات من 88 مليار دولار طلبها العراق الى 30 مليار فقط ، مثقلة بالشروط والاملاءات.

لو كنا في بلد يمارس الديمقراطية الصحيحة لقلنا ان محطة الانتخابات النيابية القريبة ينبغي ان تكون محطة مساءلة ومحاسبة للطبقة السياسية على تقصيرها وتقاعسها في عملية الاصلاح والقضاء على مظاهر الفساد واقفال مزاريب الهدر الواسعة والتي ترهق الخزينة وتفقر المواطن . الا أن هذه الطبقة لا تأبه في حقيقة الامر للاستحقاق الانتخابي من هذه الزاوية طالما ان التجييش له يجري بخطاب طائفي ومذهبي ومناطقي ، ويبقى دور الناخب محصورا في الاختيار بين هذا الزعيم او ذاك ، ولا يقترع لبرنامج انتخابي سياسي اقتصادي اجتماعي.

ذريعة أهل الحكم ان البلد واجه ازمات سياسية وامنية خطيرة في السنة الاولى من عهد الرئيس ​ميشال عون​ ، وقد حالت هذه الازمات دون اطلاق ورشة الاصلاح والبناء فعليا ، وهذا صحيح نسبيا ، ولا نقول كليا ، لان بعض هذا الجمود كان سببه مناوشات واشكالات داخل صفوف الطبقة السياسية الحاكمة ، فاللبنانيون توحدوا خلف الدولة والجيش في الحرب ضد الارهاب ، ويصطفون بالتأكيد خلفها اليوم في حملة الدفاع عن حقوقنا ​النفط​ية البحرية .وما على السياسيين الا ان يضعوا مصالحهم الخاصة والحزبية جانبا ، ويلتفتوا الى المعركة الحقيقية ، معركة النهوض بالاقتصاد اللبناني .

أول شروط هذه المعركة القضاء على منظومة الفساد ، ليس على مستوى بعض الموظفين المرتشين والمرتكبين ، فالمعركة أكبر من ذلك بكثير ، فهذه المنظومة سياسية بالدرجة الاولى تعيق المشاريع الكبرى والاصلاحات الجذرية التي من شأنها وقف الهدر في القطاعات والمرافق المختلفة ، ولعل التطبيق الفعلي لقانون الحق بالوصول الى المعلومات يوضح للمتابعين وللرأي العام حقيقة ارقام الهدر المخيفة.

للتذكير فان مزاريب الهدر الكبرى التي تغطيها منظومة الفساد كثير نذكرمنها اربعة رئيسية:

هدر الكهرباء: امتصّ عبر السنوات الماضية ما يقارب جموعه 35 مليار دولارا، أي ما يوازي 46% من الدين العام كما يقدّره مصرف لبنان.فقد استحوذت التحويلات لمصلحة ​مؤسسة كهرباء لبنان​ وحدها في مشروع موازنة العام 2017 على ما قيمته 2,100 مليار ليرة، أي ما يوازي 27% من العجز البالغ 7,843 مليار ليرة لبنانيّة. ومن المتوقع ان ترتفع هذه الارقام في موازنة 2018 والسنوات المقبلة اذا استمر ارتفاع اسعار النفط .

الجمارك: على الرغم من التحسن في ايرادات الجمارك منذ بداية عهد الرئيس عون ، فان الهدر مستمر ويقدر بـ 400 مليون دولار، وهو رقم نتج عن تحديد الخسائر عبر قياس قيمة الصفقات التجاريّة غير المصرّح عنها. كما أن هذا الرقم يشمل حصراً عمليّات التهريب مقابل رشى، ولا يتضمّن أعمال التهرّب الجمركي "المقونن" عبر الاعفاءات الخاصّة.

التهرّب الضريبي: يحرم الخزينة من 1.5 مليار دولار سنويّاً ، والسبب عدم وجود نظام ضريبي متكامل في لبنان يحد من التهرّب على مستوى الشركات. هكذا، تحتفظ الأغلبيّة الساحقة منها بدفاتر متعدّدة تميّز بين الحسابات المصرّح عنها ضريبيّاً، والحسابات غير المصرّح عنها. ويتيح نظام السريّة المصرفيّة اخفاء المعاملات المصرفيّة تجاه السلطات، رغم أنّ لبنان أقر إتفاقيّات تبادل المعلومات المصرفيّة لحسابات العملاء المكلّفين دفع الضرائب في دول أُخرى.

التخمين العقاري : من المعروف أن رسوم التسجيل العقاري يتم تحديدها كنسبة على أساس التخمين الذي يتم للعقار من الدوائر العقاريّة، وهو تخمين يخضع لاستنسابيّة الدوائر من دون وجود معايير واضحة. وبشكل عام، فإن هذه التخمينات تُعتبر أحد أبواب التهرّب الضريبي الكبرى، نظراً إلى حجم التعاملات التي تتم في هذا القطاع.

وؤكد الخبراء ان في الإمكان تأمين 300 مليون دولار (نحو 450 مليار ليرة) من الواردات الإضافيّة في حال تم اعتماد تخمين واحد وثابت لكل منطقة عقاريّة، أو جزء ضمن منطقة عقاريّة. إذ إنّ هذا الاجراء كفيل بالحد من التجاوزات والمخالفات التي تتم للتهرّب من دفع الرسوم الكاملة.

قيل ان العهد الرئاسي الجديد يبدأ بعد الانتخابات النيابية وتشكيل حكومة جديدة.

اللبنانيون ينتظرون ، ويعلقون آمالا كبيرة على الرئيس عون ، ويراهنون عليه.