تأتي تصاريح المسؤولين في ​الدولة اللبنانية​ حول المشاكل التي تواجه إقرار موازنة 2018 لتؤكّد ما هو معروف مُسبقًا أي فقدان الدولة لسيطرتها على المالية العامّة. وأول عناصر هذه الظاهرة يتمثّل بخدمة ​الدين العام​ التي تنّذر ببدء مرحلة الصعود الإسّي للدين العام.

تبلغ قيمة ما دفعه لبنان من فوائد على دينه العام منذ كانون الثاني 1998 وحتى تشرين الأول 2017، 66 مليار دولار أميركي. وبحسب أرقام وزارة المال الموجودة على البوابة الإلكترونية للوزارة (finance.gov.lb)، إرتفع متوسّط كلفة الدين العام الشهري من 185 مليون دولار أميركي في العام 1998 إلى 400 مليون دولار أميركي في العام 2016.

تحليل هذه الأرقام يدفعنا إلى التحفّظ على أرقام العام 2017 (متوافرة حتى شهر تشرين الأول) وذلك نظرًا إلى عدم تجانس أرقام العام 2017 مع باقي الأعوام من ناحية أن الإنخفاض المُسجّل في العام 2017 لا يعكس مستوى الدين العام.

ماذا تقول النظرية الإقتصادية؟

تنصّ النظرية الإقتصادية على أن ​توازن​ المالية العامّة للدوّلة (أي ​عجز الموازنة​) ليس بالمقياس الصحيح لسياسة الحكومة المالية ويعود السبب إلى أن ​السياسة المالية​ تتأثر بعاملين هما:

الأول –سياسة الدين العام في السنين الماضية والتي تنعكس في خدمة الدين العام أي بمعنى أخر إرتفاع الدين العام ينعكس بخدمة دين عام مُرتفعة والعكس بالعكس

الثاني – الوضع الإقتصادي الحالي والذي يؤدّي في حال تردّيه إلى زيادة عجز الموازنة وذلك بمعزل عن الخيارات الهيكلية في الموازنة (معدل الضرائب، ومستوى الإنفاق).

وتنصّ نظرية الإنضباط في المالية العامة أن هذه الأخيرة يتمّ ضبطها من خلال القيود على ميزانية الدولة وذلك عبر تمويل النفقات الإجمالية في ​الميزانية​ لكل سنة مالية من الضرائب أو من الإصدارات لسندات خزينة.

ويُمكن ترجمة هذه القيود بمعادلة حسابية على الشكل التالي:

الإصدارات الجديدة (أو زيادة الدين العام) + الإيرادات الضريبية = خدمة الدين العام + ​الإنفاق العام​.

وتحليل هذه المعادلة يسمح بتفسير إرتفاع الدين العام الذي يزيد إمّا لأن الدولة تُسَجِّلُ عجزاً أولياً، أو لأن الفجوة بين ​سعر الفائدة​ الحقيقي ومعدل النمو يزيد.

لبنان في وضع مالي سيئ

تطبيق النظرية على لبنان يُعطي التالي:

وضع الميزان هو في حالة سيئة مع 660 مليون دولار أميركي في العام 2004 و21 مليون دولار أميركي في العام 2016. هذه الأرقام سيئة لأنها يجب أن تكون أعلى من قيمة خدمة الدين العام التي بلغت 2.67 مليار دولار أميركي في العام 2004 و4.77 مليار دولار أميركي في العام 2016.

من هذا المُنطلق نرى أن الدولة غير قادرة على دفع مُستحقاتها المالية وهي بحاجة إلى الإستدانة لإنفاقها العام.

أضف إلى ذلك، تزيد الفجوة يومًا بعد يوم بين سعر الفائدة الحقيقي ومُعدّل النمو. وإذا إستطاع ​مصرف لبنان​ بفضل سياسة الثبات النقدي من المحافظة على مستويات مقبولة من الفائدة مُقارنة بنسبة المخاطر، إلا أن التراجع الإقتصادي جعل إرتفاع كلفة الدين العام يتسارع بنسبة أكبر من تسارع إرتفاع الناتج المحلّي الإجمالي مما يعني أن النمو الإقتصادي لم يعد كافيًا لإمتصاص عجز الموازنة.

عمليًا ماذا يعني ذلك؟

العجز في مشروع موازنة العام 2018 بحسب وزير المال ​علي حسن خليل​ يفوق الـ 8000 مليار ليرة لبنانية. أضف إلى ذلك أن هناك إستحقاقات دين عام بقيمة 7.9 مليار دولار هذا العام، مما يعني أن هناك حاجة تمويل هائلة ستتطلّب من الدولة اللبنانية ​إصدار سندات​ خزينة بقيمة تاريخية لا نعرف حتى الساعة كيف ستكون ردّة فعل ​الأسواق المالية​ عليها.

وبفرضية أن الدولة نجحت في إصدار السندات كما تتوقّع، فإن الدين العام سيرتفع بشكل ملحوظ ليدخل مرحلة الصعود الإسّي (exponential) وهو ما يُعرف بالمرحلة التي تسبق الإنهيار المالي.

أما إذا تعثّرت الأمور فإن الحكومة مُرغمة لرفع الفوائد على إصدارتها لجذب المُستثمرين وهذا يعني أن كلفة الدين العام سترتفع حتميًا.

عمليًا، تُظهر العملية الإحصائية (Fitting) لمحاولة نمذجة خدمة الدين العام، أن الإرتفاع أصبح حتميًا وبشكل كبير في الأعوام القادمة وقد يأخذ منحى دراماتكيًا إذا لم يتمّ إجراء إصلاحات فعلية في الإقتصاد والمالية العامّة (أنظر إلى الرسم).

لكن ماذا تعني كلمة إصلاحات؟

هناك إختلاف جذري بين ما يتوقّعه اللبناني من خلال كلمة إصلاحات وما ستقوم به ​الحكومة اللبنانية​. فالمواطن يتوقّع من كلمة "إصلاحات" وقف الهدر وضبط الإنفاق، إلا أنه وبحسب النظرية الإقتصادية والتي يعتمدها ​صندوق النقد الدولي​ الإصلاحات تعني ثلاثة أشياء: رفع الضرائب، رفع الدعم، وخصخصة ​القطاع العام​.

وهنا تظهر المُشكلة، فالحكومة على أبواب الإنتخابات النيابية لن تعمد إلى زيادة الضرائب ولا رفع الدعم عن بعض السلع. لذا تظهر الخصخصة كمنفذ وحيد للحكومة ستبدأ معالمه بعد إنتهاء الإنتخابات النيابية.

في مطلق الأحوال، هناك مُشكلة كبيرة تواجهها القوى السياسية في لبنان من ناحية السيطرة على المالية العامّة ومن المُتوقّع أن يكون هناك إجراءات غير شعبية في الأشهر القادمة.