لا شك في أن ما يحصل في لبنان خلال الفترة الأخيرة، يشكل إحدى القضايا المطروحة بقوة اليوم في الشرق الأوسط. فبعد أن قدم رئيس الوزراء سعد الحريري استقالته قبل حوالي ثلاث أسابيع من السعودية - ما أدى الى تأثر المؤشرات الاقتصادية كافة وتراجع التصنيفات الدولية - عاد مجددا إلى لبنان وتجاوب مع طلب رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، بتجميد استقالته بانتظار المزيد من المشاورات.

وعلى الرغم من أن الغموض لا يزال سيد الموقف، لكن عودة الحريري شكلت مفصلا تاريخيا لبنانيا، وتريّثه أشاع جوّاً من الارتياح الاقتصادي، فارتفعت سندات لبنان الدولارية، وارتفع إصدار العام 2027 بمعدل 1.7 سنتاً، مسجلاً أعلى مستوى في أسبوعين. كما إنخفض متوسط فارق عائد سندات لبنان السيادية الدولارية فوق السندات الأميركية، 9 نقاط أساس، مسجلاً 521 نقطة أساس، وهو أضيق فارق منذ 6 تشرين الثاني الجاري. وانخفضت تكلفة التأمين على ديون لبنان لخمس سنوات، 17 نقطة أساس عن إغلاق الخميس، مسجلة 549 نقطة أساس.

فهل سنشهد على انعكاسات إيجابية بعد تريّث الحريري في تقديم استقالته؟ ما هو تأثير عودة السندات الدولارية الى الارتفاع؟ وكيف يحمي لبنان اقتصاده اليوم؟

كان لـ"الاقتصاد" مقابلة خاصة مع رئيس الرابطة العالمية لخبراء الإقتصاد في لبنان وعميد كلية إدارة الأعمال والإقتصاد في "جامعة الحكمة"، البروفيسور روك أنطوان ​مهنا​، للإجابة على هذه التساؤلات وغيرها:

ما هي الإنعكاسات الاقتصادية الإيجابية لعودة الرئيس الحريري وتريّثه عن الاستقالة؟

لا شك أننا كنا نعيش في ظل حالة من القلق بعد استقال الرئيس الحريري من السعودية، وكان الشارع اللبناني متخوف من المرحلة المقبلة. وفي اليومين الأخيرين، حصلت بعض الاتصالات الدولية، وبفضل حكمة رئيس الجمهورية وبالتعاون مع رئيس مجلس النواب، تمكّن لبنان من امتصاص التداعيات السلبية الكبرى على الاقتصاد.

لكن السندات الدولارية، كانت تشهد منذ تاريخ الاستقالة والى حد اليوم، زيادة في كلفة التأمين، وفي فارق النقاط بين السندات الدولارية في لبنان والسندات الأميركية، كما أن الترقب حول مستقبل العمالة اللبنانية في الخليج بشكل عام وفي السعودية بشكل خاص كان سيد الموقف، في حال حدوث مقاطعة اقتصادية. وأضف الى ذلك، أن معظم الصادرات اللبنانية تتجه نحو الدول العربية والخليجية، وفي طليعتها السعودية.

وبالتالي مع عودة الحريري، ارتاح الشارع على الفور، خاصة بسبب وقت ومكان الخطاب، أي في يوم عيد الاستقلال. الأمر الذي أدى الى ارتياح السوق من مختلف النواحي، ما انعكس على السندات الدولارية والسندات السيادية اللبنانية، وعلى تكلفة التأمين على الديون.

ولكن هل أن هذا الانفراج مؤقت؟ نحن ننتظر ونترقب المرحلة التالية، لأن البعض يعتقد أن ما يحصل اليوم هو بمثابة مسكّن أي "إبرة مورفين"، لافساح المجال أمام رئيس الجمهورية لإجراء حوار حول ترجمة سياسة النأي بالنفس على الأرض، مع تأمين دعم وغطاء دولي لحلحلة المرحلة وإنجاح العهد بانتظار توضيح المشهد الاقليمي. والبعض الآخر يقول أن هذا الأمر هو ترجمة للاتفاق الاميركي – الروسي لضبط الايقاع والتوسع الايراني، وإعادة تموضع الخطوط.

انما بغض النظر عن الآراء السياسية المختلفة، أعتقد أنه من الضروري تحييد لبنان، وعدم قبول مشاركته في أي محور من المحاور، لأنه سيضيع كـ"فرق عملة" في هذه العاصفة.

فلبنان هو مثل "الصوص" الصغير، وأي أزمة صغيرة تؤثر عليه، وأي نفحة ايجابية تنعشه على الفور؛ وهنا تكمن ميزته الاقتصادية، ولكن في الوقت ذاته تعتبر هذه الميزة سيف ذو حدين.

كيف من الممكن أن يحمي لبنان اقتصاده من حالة عدم الاستقرار القائمة اليوم؟

أولا، يجب تفادي التراشق الاعلامي والتهجم على أي دولة.

ثانيا، يجب أن تكون التصريحات السياسية الموزونة.

ثالثا، يجب تنفيس الشارع.

وهذه العوامل قابلة للتطبيق من أجل خلق صيغة مقبولة من جميع الأطراف تؤدي الى تحييد لبنان في هذه المرحلة. كما أن التدابير السياسية أساسية اليوم من أجل امتصاص الصدمة وإعطاء ضوء ايجابي للمنطقة.

أما بالنسبة الى الشق الاقتصادي، فيجب على رئيس الجمهورية خلق خلية أزمة اقتصادية، لأنه تبين أن أبسط نفخة سياسية تعرض لبنان على الفور الى عدم الاستقرار.

فنحن لدينا كفاية في الاحتياطي الأجنبي، لكن هذا لا يعني أن الارتياح موجود لأن رأس المال جبان، ولهذا السبب يجب خلق مناعة اقتصادية لتخفيف الاتكال على الخارج، كما يجب النظر الى مصادر جذب رؤوس الأموال والعملات الصعبة.

ما هي هذه المصادر؟

هناك سبع مصادر لتحقيق هذه الغاية:

أولا، السياحة؛ قبل العام 2011، كان هذا القطاع مزدهرا، وكنا نشهد على قدوم العديد من السياح الخليجيين الذي يعتبرون الأكثر إنفاقا. وبعد فترة شهدنا على مقاطعة خليجية بسبب الخطاب السياسي. ومنذ موسم الصيف الماضي، بدأت نسبة حجوزات الخليجيين تنتعش تدريجيا حتى وصلت الى حوالي 7.5%.

ثانيا، الصادرات؛ ونحن نشهد اليوم على تدهور ملحوظ في نسبة الصادرات، كما أن الركود المحلي والاقليمي قائم. وقد لا يمتلك لبنان قاعدة متنوعة من الصادرات والأسواق، ولكن الحروب في المنطقة الاقليمية وإغلاق المعابر البرية، خفضت من حدة التنافس. كما أن هبوط أسعار النفط أثر على الاقتصاد، وعلى الركود في المنطقة، التي يعتبر مواطنوها بمثابة الشركاء التجاريين الأهم بالنسبة لنا.

ثالثا، الاستثمارات الأجنبية المباشرة؛ ونسبتها خجولة وضعيفة، بسبب غياب البيئة المناسبة. فالضرائب الجديدة المفروضة مثلا، ستؤدي الى هروب هذه الاستثمارات.

رابعا، المساعدات الدولية، وهي مصدر أساسي للعملات الأجنبية في لبنان. لكن هذه المساعدات خجولة جدا، حتى مع وجود النازحين السوريين.

خامسا، البورصة، التي تشكل بالعادة مصدرا للتمويل. ولكن في لبنان، هناك أسباب عدة لعدم فعالية البورصة، ومنها الإدارة، وعدم تحرير القطاعات مثل قطاع الاتصالات. كما أن احتكارية القطاعات في لبنان تؤدي الى أن تكون البورصة خجولة وغير فعالة لجذب رؤوس الأموال.

سادسا، تحويلات المغتربين، ويجب الانتباه على هذه النقطة، لأن التحويلات هي ركيزة أساسية، ومن المتوقع أن تصل الى 7.9 مليار دولار مع نهاية العام 2017 بحسب البنك الدولي.

هذا الأمر مهم من ناحية إدخال الأموال الى البلاد، لكننا في الوقت ذاته نصدر الأدمغة اللبنانية، وهذا الواقع معرض للمخاطر، لأن أي مقاطعة اقتصادية أو خضة سياسية ستؤثر علينا. لذلك يجب أن نقوم بما قامت به الصين والهند، حين تم تأسيس شبكة تواصل لطاقاتهم البشرية المنتشرة في العالم.

فنحن للأسف في لبنان، لا نستفيد من الخبرات اللبنانية في الانتشار، بل فقط من التحويلات لعائلاتهم.

سابعا، العمليات المصرفية، إن كان في مجال الاستثمارات المالية أو إصدار سندات اليوروبوند. وهذا الأمر يتأثر كثيرا بالتصنيف الائتماني والخضات السياسية.

لهذا السبب أناشد بضرورة إيجاد خلية اقتصادية لتفعيل الحوافز وخلقها، وتقوية الصادرات وتحسين السياحة، وإجراء إصلاحات هيكلية داخلية أكان لناحية الإعفاءات من الضرائب والرسوم في المناطق الحرة والبورصة ومن الأصول الثابتة للإستثمارات الأجنبية ولتحفيز الصادرات. بالاضافة الى التركيز على التصنيف الائتماني الذي يساعد لبنان على تحسين أسعار السندات.

كل هذه النقاط هي مصادر لجذب رؤوس الأموال، وخلق بيئة ايجابية ومناخ حاضن، من أجل تشجيع الاستثمارات الأجنبية المباشرة.