أثبتت الدولة اللبنانية في تعاطيها مع كافة الملفات، والملفات الإقتصادية خاصةً، أنها دائماً ما تستخدم المواطنين (أصحاب الحقوق) أنفسهم في تقديمها للحلول. في البداية، وقبيل إقرار ​سلسلة الرتب والرواتب​، تمكّنت الحكومة اللبنانية، من تحقيق هدفها بانقسام اللبنانيين إلى: موظفي القطاع العام المطالب بإقرار سلسلة الرتب والرواتب من جهة، وموظفي القطاعات الأخرى الذين رفضوا تمويل السلسلة من جيوبهم من جهة أخرى. أما اليوم، وبعد إقرار السلسلة وتمويلها، فإن الحكومة نفسها بفرض الضرائب على جميع اللبنانيين وليس فقط على من نال زيادةً في الأجر، تخلق الجو المناسب لوضع موظفي القطاع الخاص بمواجهة موظفي القطاع العام.

موظفو القطاع الخاص اليوم يعتبرون أن زيادة ​الضرائب، وما سينتج عنها من غلاء معيشي طبعاً، قد تم فرضها عليهم لتمويل سلسلة مواطنين آخرين، في ظل غياب أي تصحيح للأجور منذ العام 2012، أي منذ الإجتماع الأخير للجنة المؤشر التي يرأسها وزير العمل والتي كان من المفترض ان تجتمع بوتيرة دائمة لتحديد التضخم من أجل النظر في زيادة الأجور.

لا يختلف اثنان على أن الحد الأدنى للأجور الرسمي، 675000 ليرة، يعتبر منخفضاً قياساً إلى كلفة المعيشة في لبنان، فكيف إن أصبح راتب اصغر فئة في القطاع العام يبدأ من مليون و600 ألف ليرة، بحسب السلسلة؟

هنا يشير رئيس الاتحاد العام لنقابات عمال لبنان مارون الخولي، الى أن اللوم كله يقع على السياسات العشوائية للدولة اللبنانية "قرار زيادة الأجور للقطاع العام دون النظر حتى في أجور القطاع الخاص، وفرض ضرائب على القطاعين أمر غير منطقي. هذا الأمر رشوة انتخابية واضحة لموظفي الدولة من جيب الفئات الأخرى".

وتابع: "الدولة بإجراءاتها الأخيرة تقول للموظف اللبناني في القطاع الخاص، يجب عليك ان تدفع من الـ675000 ليرة التي تتقاضاها، الرسوم والضرائب لتمويل أجور موظفي القطاع العام"، مشيراً الى ان تداعيات الضرائب التي تم إقرارها "ستكون كارثية على ذوي الدخل المحدود".

كما أسف الخولي الى اتخاذ الحكومة هكذا قرارات بغياب الرؤية الإقتصادية الإجتماعية "ما أدى الى التمييز بين مواطن وآخر، وهذا انتهاك للدستور اللبناني"، موضحاً أن الأدنى للأجور في القطاع العام بات مليون و500 ألف ليرة في حين أنه بقي 675000 ليرة في القطاع الخاص. هذه الهوّة بين الأجور تتحمّل مسؤوليتها الدولة اللبنانية، فهي المسؤولة عن تحديد مستوى الغلاء المعيشي بإصدار مراسيم خاصة".

وأضاف: "في حال لم يتم تصحيح الأجور فسنتّجه الى تقديم شكوى بحق الدولة اللبنانية لدى منظمة العمل الدولية لأن الفارق في الأجور نتج عنه خللاً في الهيكلية التنظيمية للمؤسسات"، مشيراً الى ان التعاطي مع هذه الملفات بغياب الرؤية الإقتصادية "يعبّر عن غباء المسؤولين. مقارنات ومفارقات بسيطة كانت كفيلة بأن تبرهن لهم أن ما قاموا به أمر غير منطقي".

كما ألقى الخولي باللوم على هيئة التنسيق النقابية، التي وبرأيه، لم يكن من المفترض أن تعلّق إضرابها "الا بتحصيل حقوق إخوتهم بالقطاع الخاص"، مشدداً على أهمية التضامن بالمرحلة القادمة: "أمام الحكومة اللبنانية شهر واحد فقط لتصحيح أجور القطاع الخاص ورفع الحد الأدنى الى مليون و500 ألف ليرة لبنانية على الأقل وإلا سنتّجه للإضراب والإعتصام وكل الأمور التي يكفلها لنا الدستور. على الحكومة اللبنانية ان تعالج الشرخ الذي خلقته بنفسها".

من جهته، أكد رئيس الإتحاد العمالي العام، بشارة الأسمر، أنه وبعد "إقرار السلسلة والضرائب التي ستتحملها كافة القطاعات فإن تصحيح أجور القطاع الخاص بات أمراً إلزامياً. نحن باشرنا الإتصالات في هذا الإطار إن كان مع الدولة اللبنانية أو أصحاب العمل، ومن المفترض أن يؤدي الحوار الى تفاهم معيّن يُترجم بإجتماع مثمر للجنة المؤشر".

وشدد على ان الإتحاد إيجابي في التعاطي مع أصحاب العمل "بشرط أن يقابلونا هم أيضاً بإيجابية، وإلا سنتّجه الى الإجراءات التي يكفلها لنا الدستور".

وعن موقف الهيئات الإقتصادية من تصحيح الأجور، أشار الأسمر الى انها "أبدت استعدادها للبحث في الحد الأدنى للأجور دون التداخل في الشطور، أي أن الـ675000 ليرة يمكن أن تصل الى 900 ألف ليرة ولكن من يتقاضى 900 ألف أصلاً لا تشمله الزيادة، متذرعةً باتفاق قديم بينها وبين المسؤولين في فترةٍ ما...هذا واحد من الأمور غير المنطقية التي يتم طرحها".

ولفت الأسمر الى أنه بين تصحيح الأجور وزيادة الحد الدنى "يجب أن يكون هناك سلّة من العطاءات الإجتماعية كبدل النقل، والطبابة والتقاعد والحماية الإجتماعية وتخفيف بعض الضرائب منها ضريبة الدخل".

لا شك أن رفع الحد الأدنى للأجور بات أمراً ملحّاً في لبنان، فمبلغ 675 ألف ليرة الذي تم تحديده في العام 2012 لا يمكن أن يعيل أي عائلة مهما قلّ عدد أفرادها ومتطلباتهم، ناهيك عن ارتفاع نسب التضخم التي تراوحت بين 2.6% في العام 2013، و0.6% في العام 2014 لتسجّل بعد ذلك نسبة سلبية 0.25% في العام 2015، لتعود وتسجّل نسبة 0.7% في العام 2016.

وفي النهاية، هناك العديد من الإتفاقيات التي تلزم الدولة اللبنانية برفع الحد الأدنى للأجور أو على الأقل عقد اجتماع للجنة المؤشر والنظر في ذلك. ونختم المقال بنص بعضها:

- المادتان 44 و46 من قانون العمل التي تنصّ على أن يكون الحدّ الأدنى من الأجر كافياً لسدّ حاجات الأجير الضروريّة وحاجات أسرته. وأن يعاد النظر في تحديد الحدّ الأدنى كلّما دعت الظروف الاقتصاديّة إلى ذلك.

- المواد 16 و19 و20 من اتفاقية العمل العربيّة رقم 183 والمصدَّق عليها في عام 2000، والتي عرّفت الحدّ الأدنى للأجور بالمستوى المقدّر للأجر ليكون كافياً لإشباع الحاجات الضروريّة للعامل وأسرته، مع ما يترتب عن ذلك من مراعاة حركة الأسعار ومستوى تكاليف المعيشة عند تحديد الحدّ الأدنى للأجر، ومراجعة هذه الحركة دورياً.

- اتفاقيّة العمل الدوليّة رقم 131 المصدَّق عليها بموجب المرسوم الاشتراعي رقم 70/1977 والتي تلزم الدولة العضو فيها بالإبقاء على جهاز يتلاءم مع الظروف والمتطلبات الوطنيّة لتحديد الأجور الدنيا للعاملين بالأجر، بالتشاور مع المنظمات الممثلة لأصحاب العمل والعمال، أو لممثليهم. أو وضع أحكام تحترم أسس المساواة. وهو ما لم يحصل.