بدأ العالم منذ عدة سنوات يتجه نحو عصر اقتصادي جديد، بفضل تطوير العديد من المنتجات التكنولوجية الجديدة، مثل الإنترنت والحوسبة السحابية والبيانات الكبيرة والتعلم الآلي والذكاء الاصطناعي.

وتشكل هذه التكنولوجيات معًا قوة كافية ليتفق الاقتصاديون من أن العالم يعيش ثورة اقتصادية رقمية، إلا أنهم لم يتفقوا على كيفية تغيير هذه التكنولوجيات للاقتصاد، كما لم يتفقوا على مدى عمق التغييرات.

ويرى روبرت جوردون من جامعة "نورث ويسترن" أن ثورة الحاسوب وصلت إلى ذورتها في عصر "دوت كوم" في التسعينيات، وأن التقدم التكنولوجي في المستقبل سوف يكون أبطأ.

وعلى الجانب الآخر يرى البعض أن التقدم التكنولوجي يتحرك بسرعة، ويمكن أن يتسبب في مزاحمة البشر على وظائفهم وأنشطتهم.

كيف تغير التكنولوجيا مفهوم الاقتصاد؟

الاقتصاد الثاني

- أدت التكنولوجيا إلى خلق ما يسمى بالاقتصاد الثاني، وهو اقتصاد افتراضي ومستقل، لا يعزز الاقتصاد المادي فحسب، بل يمد الأعمال التجارية بذكاء خارجي مختلف عن الذكاء البشري المتعارف عليه، يكمن  في خوارزميات الاقتصاد الافتراضي والآلات.

- يمكن للعمليات المالية والتجارية والهندسية أن تستفيد الآن من المهام الذكية التي توفرها التكنولوجيات الجديدة، مما يعزز أنشطتها بشكل كبير، ويجعل الأنشطة البشرية تختفي بالتدريج.

- لهذه الأسباب يدخل الاقتصاد حقبة جديدة، لا تتعلق بما يتم إنتاجه، ولكن بكيفية توزيع هذا الإنتاج، وكيفية حصول الأشخاص على حصصهم مما يتم إنتاجه.

- سوف يتم تقييم السياسات التجارية والمشروعات الحكومية واللوائح التجارية في المستقبل وفقًا لتوزيع الإنتاج.

- كما سوف تتغير السياسات ومفاهيم السوق الحرة والهياكل الاجتماعية، ورغم أن التحول لايزال في بدايته، إلا أنه سوف يكون عميقًا.

التحول الثالث

- بدأ التحول الأول خلال فترة السبعينيات والثمانينيات، حين تم اختراع الدوائر المتكاملة، وهي عبارة عن معالجات صغيرة وذاكرة على شرائح مصغرة تستطيع تسريع العمليات الحسابية.

- يمكن للمهندسين استخدام برامج التصميم القائمة على الحوسبة، ويمكن للمديرين رصد البضائع في الوقت الفعلي، ويمكن للجيولوجيين تمييز الطبقات وحساب فرص تواجد النفط.

- بذلك وصل الاقتصاد للمرة الأولى إلى مرحلة الاعتماد على مساعدة الحاسب بدرجة كبيرة، كما بدأ ظهور الحاسوب الشخصي.

- في التسعينيات والألفية حدث التحول الثاني، وأصبح من الممكن ربط أجهزة الكمبيوتر ببعضها البعض عبر شبكة محلية وعالمية، من خلال الهواتف أو الألياف البصرية، وأصبح الإنترنت كيانًا تجاريًا.

- خلال هذه الفترة ظهرت خدمات الويب، وأصبح بالإمكان ربط الأجهزة في الأماكن البعيدة ببعضها، ومن هنا بدأ ظهور الاقتصاد الافتراضي، والآلات والعمليات والبرمجيات المتصلة.

- صار من الممكن تنفيذ العمليات المادية رقميًا، وتلاشت الأهمية الجغرافية، فيمكن لتجار التجزئة في الولايات المتحدة متابعة المصنعين في الصين والموردين في الوقت اللحظي.

- كما بدأ الإنتاج يتركز في الأماكن الأرخص، مما أدى إلى تلاشي اقتصادات محلية كانت مزدهرة فيما سبق، بسبب ظهور مفهوم العولمة بفضل ربط أجهزة الكمبيوتر ببعضها البعض.

- بدأ التحول الثالث الذي يعيشه العالم الآن منذ عام 2010 تقريبًا، مع ظهور أجهزة استشعار رخيصة ومتوافرة في كل مكان ولجميع الأغراض، مثل قياس الدم والضغط والرطوبة ودرجة الحرارة.

- يمكن لهذه الأجهزة أن توفر العديد من المعلومات والبيانات مثل التحذير في حالة وجود مواد كيميائية في الجو، ويمكن استخدامها لتشغيل السيارات ذاتية القيادة من خلال التعرف على الطرق والمارة.

- خلال العشر سنوات الماضية تم تطوير خوارزميات ذكية، وصار بإمكان الآلات التعرف على الأشياء، ومعالجة الكمبيوتر للغات الطبيعية، وهي العملية التي تمكن الأشخاص من التحدث إلى الكمبيوتر مثل البشر تمامًا، إضافة إلى التعرف على الوجوه والأصوات، وظهور المساعد الرقمي. فأجهزة الكمبيوتر أصبحت تفعل الأشياء، التي ظن البشر أنهم وحدهم القادرين على القيام بها.

ظهور الذكاء الخارجي

- المقصود بالذكاء هنا هو قدرة الآلات على الفهم والتصرف بالشكل المناسب في الوقت المناسب، مثل قدرة السيارات ذاتية القيادة على تتبع إشارات المرور والسير في طرق خاصة، وإجراء محادثات فيما بينها لتجنب الحوادث، دون تدخل من البشر.

- المثير في هذا الأمر أن الذكاء لم يعد مقصورًا على العقل البشري فقط، لكنه انتقل إلى الاقتصاد الافتراضي.

- فعندما ظهرت الطباعة في القرنيّن الخامس والسادس عشر، أصبحت المعلومات متاحة للجماهير، مما أدى إلى النمو السريع في جميع حقول المعرفة، والتدفق الغزير للمعلومات.

- يعيش العالم الآن تحولاً ثانيًا، لا يمكن التنبؤ بنتائجه أو بما سيجلبه في المستقبل.

كيف يغير ذلك الأنشطة التجارية

- يمكن للشركات الآن تطبيق قدرات الذكاء الاصطناعي في التعرف على الوجوه أو الصوت، لأتمتة المنتجات والخدمات وسلاسل القيمة.

- سوف يحدث التغيير الجذري عندما تبدأ الشركات بتجميع أجزاء من الذكاء الاصطناعي الخارجي معًا، وعمل نماذج أعمال جديدة بها.

- قامت إحدى شركات التكنولوجيا المالية في الصين بتطوير تطبيق على الجوال لاقتراض الأموال أثناء التسوق، ويقوم التطبيق بالتحقق من صوت المستخدم من خلال تمريره على خوازرميات على الإنترنت للتعرف على الهوية.

- تظهر المزيد من الخوارزميات الذكية يوميًا، والتي لا تعتمد على الذكاء الخارجي فحسب، بل على الجمع بين خوارزميات البحث عن البيانات وخوارزميات معالجة اللغة الطبيعية وغيرها من الخوازميات، لتنفيذ المهام التي كان البشر يقومون بها.

- كما يمكن للشركات استخدام مجموعة من الهياكل الافتراضية التي تم إنشاؤها بالفعل، مثل تكنولوجيا البلوك تشين لتنفيذ وتسجيل المعاملات المالية، واستخدام البيتكوين وغيرها من العملات الرقمية في التداول.

- نتيجة لذلك لم تعد الخدمات المصرفية أو الرعاية الصحية أو خدمات النقل تعتمد على آلات تحل محل البشر، لكنها باتت تستخدم تكنولوجيا ذكية جديدة تعيد تشكيل الطريقة التي تقوم بالأشياء بها.

- يمكن لبعض الشركات التكنولوجية الكبيرة إنشاء أنظمة ذكية خارجية مباشرة مثل التحكم في الحركة الجوية المستقلة أو التشخيص الطبي المتقدم.

- تمثل الثورات التكنولوجية مؤشرًا على ما سوف يشهده العالم من ظهور صناعات جديدة تمامًا، لم يكن يفكر أحد بها من قبل.

الجانب السلبي

- أصبح الاقتصاد المستقل يؤثر سلبًا على الاقتصاد المادي، فقد حلت الخوارزميات محل العديد من الوظائف مثل وكلاء السفر والمساعدين القانونيين وغيرها من الوظائف، مما أدى إلى تسريح الكثيرين من العمل، وهو ما يعرف باسم (البطالة التكنولوجية).

- أطلق هذا المصطلح الاقتصادي البريطاني "جون ماينارد كينز" خلال محاضرة عام 1930، حيث تنبأ بحل مشكلة الإنتاج في المستقبل في عام 2030 تقريبًا، لكنه توقع أن تحل الآلات والروبوتات محل البشر، مما يتسبب في البطالة التكنولوجية.

- رغم أن العالم لم يصل بعد إلى عام 2030، إلا أن (البطالة التكنولوجية) بدأت تتحقق، ولم يعد من المهم في هذه المرحلة هو الإنتاج، ولكن كيفية الوصول إلى الإنتاج.

- ساعد ذلك في الدخول إلى مرحلة مختلفة من الاقتصاد، وهي عصر التوزيع.

حقائق عن عصر التوزيع

- سوف تتغير معايير تقييم السياسات، ففيما سبق كان الاقتصاد القديم القائم على الإنتاج يدعم أي شيء يساعد على النمو الاقتصادي، لكن في عصر توزيع الإنتاج سوف تكون معايير التقييم هي إمكانية الحصول على وظائف أو سلع، فالنمو الاقتصادي سيبدو مقبولاً طالما هناك فرص عمل.

- سوف يكون من الصعب دعم مفاهيم اقتصاد السوق الحر القائمة على الكفاءة بشكل أساسي، وعلى حرية الفرد في أي نشاط اقتصادي.

- لن يكون للكفاءة معنى خلال عصر التوزيع طالما أن هناك فئات مختلفة من الأشخاص يفقدون وظائفهم بسبب التطور التكنولوجي.

- لن تؤثر الحقبة الجديدة على الاقتصاد فحسب، لكن على السياسة أيضًا، فالعمال الذين يفقدون وظائفهم يشعرون بالغضب، وقد يؤدي ذلك إلى اضطرابات سياسية مستمرة، ما لم يتم حل مشكلة البطالة وإمكانية الوصول إلى المنتجات بطريقة عادلة.