من منا لا يرغب بإلتماس عودة آلية إنفاق الدولة اللبنانية إلى السكة الصحيحة؟ فالأحاديث عن الفساد، وسرقة المال العام، ونهب خزينة الدولة، باتت مواضيع حياتية يومية، خاصة وأن الطبقة السياسية الحاكمة، اعتادت التصرف بأموال المواطنين كما يحلو لها، بفضل غياب المحاسبة على مرّ السنوات.

وفي الأسبوع الماضي، شهدنا على "جلسة المواجهة وتبادل الاتهامات بين أحزاب السلطة"، حتى تم الاتفاق في النهاية على موازنة 2017، لتنطوي بذلك صفحة غياب الموازنات على مدى 12 عاما. وذلك على الرغم من أن إقرار موازنة خاصة بسنة، وصلنا الى الشهر العاشر منها، هو أمر مدعيّ للسخرية وبدون جدوى، لأن الاعتمادات المالية للأشهر الماضية، قد تم صرفها دون أي حسيب أو رقيب.

أما أبرز "الكوارث" المترافقة مع إقرار موازنة 2017 – إلى جانب الموافقة على سلّة ضريبية مستحدثة تطال جيب المواطن - فهي غياب قطع الحساب، من خلال تعليق العمل بالمادة 87 من الدستور، والتي نصت على أن "حسابات الإدارة المالية النهائية لكل سنة يجب أن تعرض على المجلس النيابي ليوافق عليها قبل نشر موازنة السنة التالية التي تلي تلك السنة"، وهذا الأمر يُشكّل سابقة صادمة، ويجعل من قانون الموازنة الجديد مخالفا لقواعد الدستور.

فإن قطع الحساب هو عبارة عن بيان مالي يبيّن تطابق أو عدم تطابق مدخول خزينة الدولة مع ما أنفقته خلال فترة سنة. وبدونه، يبقى الوضع المالية للدولة مجهولا، ويخيّم الغموض على دواعي الإنفاق من جهة، وعلى المنفقين من جهة أخرى؛ وبالتالي فإن هذه العملية بذاتها تفضح الفساد وأصحابه.

فما هي خطورة إقرار الموازنة العامة دون قطع الحساب؟ وهل أن هذا الأمر هو خرق لثقة الشعب بمجلس النواب؟ وما هو التغيير الذي سنلتمسه على الأرض إثر اقرار الموازنة بعد غياب دام لـ12 عاما؟

هذه الأسئلة وغيرها أجاب عليها مستشار رئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي والخبير الاقتصادي د. ​سمير الضاهر​، في هذه المقابلة الخاصة مع "الاقتصاد":

- أين تكمن خطورة إقرار الموازنة دون قطع الحساب؟

ما حصل هو مخالفة للدستور، لأن المادة 87 منه، تنص على أن الحسابات النهائية للسنة المكتملة - أي العام 2015 في هذه الحالة – يجب أن تكون حاضرة، كما يجب أن يكون قطع الحساب موجودا ويقدم الى مجلس النواب، لكي يوافق عليه قبل إصدار قانون موازنة 2017؛ وهذا الأمر لم يحصل، بل صوت مجلس النواب على قانون يلغى العمل بهذه المادة، وهذه "هرطقة قانونية ودستورية"، لأن القانون لا يستطيع إلغاء مادة دستورية.

والطريقة الصحيحة كانت في حصول تعديل أو تعليق للدستور، والعمل بالمادة 87 لسنة واحدة، في حين أن اليوم بات من شبه المستحيل حصول التعديل.

كما أن هذه الموازنة هي الأولى منذ 12 عاما، وبالتاي فإن آخر قانون للموازنة كان في العام 2005، ما يعني أن آخر قطع حساب حصل في العام 2003. وبالتالي غاب قطع الحساب منذ العام 2003 وحتى العام 2017، أي لمدة 14 عاما، لم يتم خلالها العودة الى مجلس النواب كسلطة رقابية للتأكد من التزام الحكومة ومؤسسات الدولة بالقوانين الصادرة، وهنا يوجد انتقاص لدور مجلس النواب كسلطة رقابية.

وهذا الأمر يلغي حتما فكرة أن إصدار قانون الموازنة هو إنجاز عظيم محقق، فأنا لا أعتبره بالأساس بمثابة إنجازا لأنه لا يجوز الشكر على واجب. انما في حال تم اعتباره كذلك، فهو بالطبع ليس انجازا للحكومة كما قال رئيس الحكومة سعد الحريري في تعليقه في نهاية جلسة المناقشة، بل هو إنجاز لمجلس النواب. لأنه خلال الأعوام الـ12 الماضية، حولت كل الحكومات مشاريع موازنة سنوية الى مجلس النواب والعلة كانت في هذا المجلس بسبب غياب الاتفاق على أساس غياب قطع الحساب.

- هل من تأثيرات ايجابية موجودة اليوم على الاقتصاد اللبناني بعد إقرار موازنة 2017 مع العلم أننا أصبحنا في منتصف الشهر العاشر من السنة؟

عملية إقرار الموازنة هي بمثابة إشارة للجمهور اللبناني وللأسواق المالية، تدلّ على أنه تم انتظام المالية العامة.

فالموازنة تقدم خلال العقد الثاني من مجلس النواب - العقد الأول يكون في 15 آذار لشهرين ونصف، والعقد الثاني يبدأ بتاريخ 15 تشرين الأول وينتهي مع نهاية العام - وهذا العقد مخصص حصريا لموازنة العام المقبل

والمادة 83 من الدستور، تنص على أن الموازنة تقدم الى الحكومة في أول ثلثاء يلي 15 تشرين الأول، والعقد يستمر حتى نهاية كانون الأول، يبحث خلاله مجلس النواب مشروع الموازنة الذي تقدمت به الحكومة. لذلك في العام 2017، كان من المفترض على الحكومة أن تقدم مشروع موازنة 2018، وأتمنى أن يتم التقدم بهذا الأمر سريعا .

- هل من الممكن برأيك أن يتم الاتفاق على موازنة 2018 ضمن المهل الدستورية المحددة؟

مشروع الموازنة تحضره وزارة المالية، تحوّله هذه الأخيرة الى مجلس الوزراء، الذي يدرسه كحكومة، ويعدل به في حال وجد تعديلات، ومن ثم يتم تحويل هذا المشروع الى مجلس النواب في العقد الثاني من المجلس، ويبدأ هذا الأخير ببحث الموازنة في أول ثلاثاء بعد 15 تشرين الأول.

أما المادة 86، وهي مادة مهمة جدا ولا يعرف عنها الكثيرون كما لا يتابعها عدد كبير من الأشخاص، تنص على أنه اذا لم يتمكن مجلس النواب خلال مدة شهرين ونصف، أي من 15 تشرين الأول حتى نهاية كانون الأول، من الاتفاق على قانون الموازنة، يحق لرئيس الجمهورية تمديد العقد أو فتح عقد استثنائي في شهر كانون الثاني من السنة التالية. وفي كانون الثاني 2018 يسمح الدستور للحكومة أن تصرف في هذا الشهر، على أساس 1 على 12، ما صرفته في العام 2017؛ وهذا هو مبدأ الاثني عشرية الذي يتمد مفعوله لشهر واحد فقط لا غير، وليس على مدى 12 عاما.

هناك فقرة أخرى في المادة ذاتها، تنص على أنه اذا حوّل مجلس الوزراء مشروع الموازنة الى مجلس النواب، في بداية شهر تشرين الأول، أي قبل تاريخ 15 تشرين الأول، ولم يتمكن حينها مجلس النواب من الاتفاق لإصدار قانون موازنة بحلول شهر نهاية كانون الثاني 2018، يحق حينها لرئيس الجمهورية إصدار الموازنة بصيغة المشروع الذي تقدم به مجلس الوزراء؛ وبالتالي يحصل رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء على سلطة تشريعية لاصدار قانون الموازنة بالشكل الذي تقدمت به الحكومة؛ من هذا المنطلق نجد تقاعصا من الوزارات والحكومات المتعاقبة.

من جهة أخرى، في موضوع قطع الحساب خلال العام 2015 على سبيل المثال، هناك صرف وجباية ونفقات، وفي نهاية العام 2015، ستكون وزارة المالية قد جمعت جميع المستندات والمعلومات لكي تبدأ بتحضير قطع الحساب، وبالتالي يجب أن يكون حاضرا بالشكل المطلوب وفي منتصف شهر آب، أي بعد 8 أشهر ونصف من بداية السنة. وحين توافق عليه الوزارة يقدم الى ديوان المحاسبة، وهذا الأخير لديه مهلة تمتد من منتصف آب حتى منتصف تشرين الأول، للتدقيق في هذه الحسابات والموافقة عليها، وحينها يأتي قطع الحساب مع بعض التدقيق من ديوان المحاسبة. لذلك لا بد الاشارة الى أن موظفي وزارة المالية يتقاعصون عن تأدية مهامهم، وهذه المشكلة كبيرة.