يتجه ​مجلس الوزراء​ غدا (الثلاثاء) الى تعليق العمل بالقانون رقم 46 الخاص بسلسلة الرتب والرواتب ، بعد أن الغى المجلس الدستوري القانون رقم 45 الذي يؤمن عبر الضرائب الاضافية الايرادات المطلوبة لهذه السلسلة . والقانون حديثا الولادة بعد مخاض عسير.

ليست التشوهات الخلقية ، كما في الولادات البشرية ، هي السبب في الموت المباغت للقانونين. فمجلس النواب اقرهما باستخدام عدة الشغل القديمة ، اي وفق فلسفة بالية تقوم على ان التقديمات الاضافية ، تستلزم ضرائب اضافية. ولم يتم البحث عن موارد جديدة في اماكن غير مطروقة بعد.

المشكلة اذا ليس في مسار الحمل ، بل في الرحم الذي شوه الجنينين وحكم عليهما بالموت.

رئيس الجمهورية العماد ميشال عون تمهل في التوقيع على القانونين ، وبادر الى اقامة حوار في قصر بعبدا، للبحث في مختلف اوجه الخلاف والتناقض واختلاف الآراء بين شركاء الانتاج والعمل حول قانوني سلسلة الرتب والرواتب في القطاع العام، واستحداث بعض الضرائب لغايات تمويل السلسلة. وقد شارك في الحوار رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري والوزراء المختصون، وحاكم مصرف لبنان، وممثلون عن: الهيئات الاقتصادية والعمالية والمالية، ونقباء المهن الحرة، والمدارس الخاصة، والمعلمين في المدارس واساتذة الجامعة اللبنانية. وعلى الرغم من ذلك فان القانونين مرا بصيغتيهما الاساسيتين.

والخشية اليوم بعد تعليق العمل بالسلسلة ان يستعاد الخلاف اياه ، ويستمر حوار الطرشان. ويعود المجلس النيابي الى تكرار تجربته السابقة فيبحث في المكان نفسه عن موارد ، لنصل الى النتيجة نفسها .

السلسلة مطلب محق، حملته على مدى سنوات هيئة التنسيق النقابية، وهي الهيئة التي تمثل مصالح 230 ألف موظف في القطاع العام ومعلم في المدارس الرسمية، أي 16% من اليد العاملة.

وتنبع اهميتها من اسباب عدة ، فزيادة الرواتب والأجور ضرورية للتعويض عن الخسارة في القدرة الشرائية. وحصة الرواتب من إجمال الناتج المحلي تراجعت إلى 22%، بعد أن بلغت 60% تقريباً من السبعينيات.كما أن معظم موظفي القطاع العام، وخصوصاً العسكريين، يتقاضون رواتب لا تتعدى مليون ليرة شهرياً، وهو دخل لا يغطي خط الفقر لأي عائلة.

ولا شك أن حرمان موظفي القطاع العام حقَّهم بالعيش الكريم، ولا سيما إعادة تعزيز القدرة الشرائية لرواتبهم وتعويضاتهم، قد يقضي على أحد آخر أركان ما بقي من الطبقة الوسطى اللبنانية. ومن شأن ذلك أن يؤدّي إلى استقطاب شديد في لبنان، ويقوّض الاستهلاك المحلي، الذي ما زال يشكل أحد أهم محرّكات الاقتصاد اللبناني.

ولكن هل من المحتم اعطاء الزيادات لفئة من الشعب بيد ، وأخذ اضعاف مضاعفة من مختلف الفئات باليد الاخرى ؟

هذه ثقافة استهلاكية ، وليست ثقافة انتاجية تطويرية . وينبغي وضع الوعود الرئاسية موضع التنفيذ : خطة للنهوض الاقتصادي ، تقوم على فلسفة التطوير وخلق الفرص وتكبير الاقتصاد الاقتصاد، بدلا من سياسة لحس المبرد .

وبالنسبة للمشكلة الحالية أي تمويل السلسلة ، فان ذلك ممكن ، وفقا لما يقوله الخبراء ، من دون زيادة الضرائب، وهناك الكثير من الابواب التي تستطيع السلطة السياسية ان تمول السلسلة دون المس بالطبقة الفقيرة وذلك عبر تحصيل المتأخرات الضريبية ومنها فواتير الكهرباء وخاصة من المؤسسات الكبيرة، بالاضافة الى تسويات جدية تحفظ للدولة حقوقها للاعتداءات على الاملاك البحرية والنهرية، وعلى اعمال البناء التي تستطيع من خلالها ان تحصل المليارات من الدولارات، في حال تم تنفيذها بشفافية وبعيدة عن المحسوبية. كذلك لا بد من عصرنة الادارات الرسمية والوزارات، بالإضافة الى تشريع قوانين تحاكي الحداثة والتطور، وخصوصا الاجهزة الاساسية التي تحمي المال العام كالأجهزة الرقابية، والوظيفية، والادارية.

واذا كان لا بد من الضرائب فيجب اولا اصلاح كامل للنظام الضريبي،اذ يوجد تهرب ضريبي كبير في لبنان وصل بإعتراف السياسيين الى نسبة 40%، ويجب البحث في تحصيلها ، قبل فرض ضرائب على الاستهلاك والتي ترهق المواطن. وهنا تبرز المسؤولية الاخلاقية والاجتماعية والضريبية على عاتق ارباب العمل، وذلك من خلال تصريحهم الحقيقي عن اجور العمال لديهم. وبما انه لا يمكن المارهنة على ضمائر هؤلاء ، وكذلك على اصحاب المشاريع الاستثمارية الضخمة ، وحيتان المال ، فينبغي على المجلس النيابي اطلاق ورشة تشريع تجبر الفئات الميسورة على المساهمة في تمويل مصاريف الدولة ، والسلسلة جزء منها .

اما الضريبة على القيمة المضافة فيجب ان تكون مدروسة كي لاتثقل كاهل الفقراء ، فيتم تثبيت نسبة ١10% على السلع الاساسية ، ورفعها الى نسبة 15% على الكماليات .

كما يوجد ابواب اخرى ورئيسية لتحصيل الضرائب وتمويل السلسلة من خلالها، منها التلزيمات، والمناقصات التي تقوم بها الدولة، بحيث تحكم تلك المناقصات شفافية المطلقة.

يجب اطلاق خطة جدية لإعادة هيكلة القطاع العام والاقتصاد عموماً، والنظر بجدية إلى القطاعات التي تحتاج إلى تحسين في الوظائف ونوعيتها، مع إعادة النظر بحجم الإنفاق الاجمالي ودوره. فلدينا قطاع عام يعمل حالياً بثلث طاقته فقط، إذ تعاني الإدارة العامة من شغور في ملاك موظفيها يصل إلى 70%، وما بقي منهم يراوح معدل أعمارهم بين 47 و58 عاماً.

عدد المراكز الشاغرة في الدولة يبلغ نحو15 الف وظيفة، من أصل 22 ألف وظيفة ملحوظة في الملاك الإداري العام، أي إن هناك 7000 وظيفة مشغولة فقط.

وتشكّل حصّة رواتب العسكريين وأجورهم وملحقاتها 60% من الكلفة الإجمالية للسلسلة، يتبعها الجهاز التربوي 23% والجهاز المدني 17%. فاتورة أجور العسكريين ازدادت بنسبة 140% خلال 10 سنوات، مقارنة بـ 74% زيادة لفاتورة الجهاز المدني خلال المدة نفسها.

هناك ضرورة لفصل سياسة إنصاف الموظفين وتعزيز رواتبهم عبر سلسلة الرتب والرواتب واجراءت أخرى ، عن إصلاح الإدارة العامة وتفعيلها، لانه لو تم تأمين موارد السلسلة ألان ، فان المشكلة ستتكرر في السنوات المقبلة اذا لم يتم ترشيد القطاع العام وزيادة انتاجيته.

في لبنان اقتناع واسع النطاق باستحالة إدخال أي إصلاح جدّي ببساطة، نظراً إلى طائفية الدولة اللبنانية والفساد المستشري من خلال سيطرة شبكات المحسوبيات .

الطبقة السياسية الحاكمة تتحمل المسؤولية المباشرة لانها لا تريد ان تتخلى عن الامتيازات التي اعطتها لنفسها، والتي من خلالها تبقى هي المسيطرة والمهيمنة على ادارة هذا البلد.