مع إقتراب موعد إقرار موازنة العام 2017، يُطرح السؤال عن خطّة الحكومة للجم الدين العام الذي فاق الـ 77 مليار دولار أميركي. وتأتي أحقية هذا السؤال من مُنطلق أن الدين العام يؤثر سلبًا على النمو الإقتصادي خصوصًا إذا ما تخطّى مستويات مقبولة.

من الواضح أن وصول الدين العام إلى عتبة الـ 77 مليار دولار أميركي (154% من الناتج المحلّي الإجمالي) هو نتاج إنفاق مُفرط للدوّلة اللبنانية خلال عقدين ونيّف. فترة كان فيها عجز الموازنة يرتفع بقيمة وسطية 3.15 مليار دولار سنويًا مع تسجيله رقمًا قياسيًا في العام 2016 مع وصوله إلى عتبة الخمسة مليارات دولار أميركية!

الدولة فقدت السيطرة على الدين العام

وبالنظر إلى قيمة العجز التراكمي منذ العام 2004 وحتى نهاية العام 2016، نرى أن قيمته هي 40.7 مليار دولار أميركي مُقارنة بإرتفاع في الدين العام بقيمة 42 مليار دولار أميركي ليستنتج القارئ أن عجز الموازنة هو السبب الوحيد في إرتفاع الدين العام.

وتُظهر الأرقام الصادرة عن وزارة المال أن قيمة الميزان الأوّلي كانت تتراجع مع كل إرتفاع في الدين العام. ونُلاحظ على الرسم أن قيمة هذا الميزان تراجعت من فائض بقيمة 1.8 مليار دولار أميركي إلى سلبي مع إرتفاع نسبة الدين العام إلى الناتج المحلّي الإجمالي من 133% إلى 188%!

وهذا الأمر يعني أن بكل بساطة أن الدولة تُسجّل تراجعًا في ماليتها العامّة يجعلها تفقد هامش التحرك في ما يخص تحفيز النمو الإقتصادي. أكثر من ذلك، مع إرتفاع العجز تزداد حاجة الدولة إلى الإقتراض من المصارف اللبنانية مما يجعلها تُنافس القطاع الخاص على رؤوس الأموال وبالتالي تحرم الإقتصاد اللبناني من الإستثمارات التي هي الممرّ الإلزامي لأي نمو إقتصادي حقيقي.

تنصّ النظرية الإقتصادية على أنه هناك سقف لنسبة الدين العام إلى الناتج المحلّي الإجمالي لا يُمكن تخطّيها إذا كانت الدولة تُريد الإستفادة من مبدأ الرافعة. وتُشير دراسة لمنظمة الـ OECD أن المستوى الأمثل لنسبة الدين العام إلى الناتج المحلّي الإجمالي للإستفادة القصوة من هذا الدين وتعظيم النمو الإقتصادي هو 65%. وإذا ما تخطّت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلّي الإجمالي تتبدّل المُعادلة ليُصبح الفائض الناتج عن الإستدانة إلى عجز بسبب خدمة الدين العام التي تُلقي بثقلها على المُعادلة. وفي حال لبنان، تخطّت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلّي الإجمالي عتبة الـ 60% منذ وقت طويل وبالتالي أصبحت المالية العامّة ترزخ تحت خدمة دين عام قاربت الخمسة مليارات دولار أميركي في نهاية العام 2016!

ديناميكية الدين العام تؤثر وتتأثر بالميزان الأوّلي الذي يتوجّب أن يُسجّلفائضًا أعلى من قيمة خدمة الدين العام ليكون هناك إنتظام في المالية العامّة وليكون هناك سيطرة على الدين العام. والأرقام المُتوافرة في وزارة المال تُشير إلى هذا الإنتظام غائب منذ أكثر من عقدين على الرغم من النمو الهائل الذي سجّله لبنان في الأعوام 2007-2010.

وبالتالي يظهر جليًا أن تحفيز النمو وحده غير كافٍ لإنضباط المالية العامّة.

المُشكلة الأساسية تأتي من الإنفاق الهائل الذي قامت وتقوم به الحكومات المُتعاقبة غير آبهة بالخطر الذي يُحدق بالكيان اللبناني. وبالتالي فإن إزالة هذا الخطر يبدأ بوضع سقف للإنفاق العام والإلتزام به مهما كانت الظروف.

إذًا كنتيجة لكل ما سبق، نرى أن الدين العام المُرتفع له تداعيات سلبية على النمو الإقتصادي وعلى السياسة المالية للدوّلة من ناحية أنها لا تستطيع وضع أية مُخططات لتحفير الإقتصاد وأصبحت شبه مُلزمة بأرقام تسقط سنويًا على الموازنة ولا حول ولا قوة للحكومة التي تُظهر عجزًا واضحًا.

الخروج من هذا الأمر يفرض خطّة بشقّين:خفض الإنفاق العام وإشراك القطاع الخاص.

خفض الإنفاق العام

إن خفض الدين العام يمر عبر خطة من إثنين:

1- إعتماد نسبة 1% كخفض لكل بنود الموازنة من دون أية إستثناءات: تمّ إعتماد هذه الخطّة في العديد من الدول الأوربية في الماضي وأثبتت فعّاليتها حيث إستطاعت هذه الدول خفض إنفاقها العام بنسبة ملحوظة أو أقلّه وضعت سقفًا للإنفاق العام.

2- الدخول إلى البنود الأكثر إستهلاكًا (الأجور، الكهرباء...) وإجراء إصلاحات فيها. لكن هذه الخطّة تتطلّب مسحًا دقيقًا للمُشكلة وبالتالي فإن حلولها الإستنسابية تخلق مشاكل إجتماعية على مثال ما تقوم به فرنسا اليوم في ما يخصّ قانون العمل.

إشراك القطاع الخاص

إن عجز الدوّلة عن القيام بإستثمارات في البنة التحتية كما ودعم القطاعات الإنتاجية يفرض إشراك القطاع الخاص الذي يملك قدرات مالية كبيرة تذهب اليوم لسد عجز الدولة أو للإستثمار في الخارج. وقد تمّ حديثًا إقرار قانون الشراكة بين القطاع العام والخاص وهذه الخطوة هي خطوة جيدة لكنها ليست كافية. إذ أن غياب قانون لمكافحة الفساد سينقل الفساد من القطاع العام إلى القطاع الخاص وبالتالي لن يكون لإستثمارات القطاع الخاص أي تأثير على النمو الإقتصادي. أيضًا يتوجّب إقران قانون الشراكة بين القطاع العام والخاص بقانون تحفيز ضريبي يطال التوازن المناطقي وتوفير فرص العمل. مثلًا يُمكن إعفاء الشركة من قسم من الضريبة إذا ما قامت بخلق وظيفة جديدة لعامل لبناني.

في الختام لا يسعنا القول إلا أن الإرادة السياسية والتوافق في بلد تحكمه المذهبية، هو السبيل الوحيد لإنقاذ الكيان اللبناني من الكارثة المحتومة.