أصبح ​الدين العام​ اللبناني التحدّي الأساسي للدوّلة اللبنانية بعد أن بلغ مستويات تاريخية خطيرة مع وصوله إلى عتبة الـ 77 مليار دولار أميركي (أي ما يوازي الـ 154% من الناتج المحلّي الإجمالي). وشبك المعلومات يُظهر أن الحكومات المُتعاقبة منذ العام 1993 إلى يومنا هذا تتحمّل بالتساوي مسؤولية إرتفاع الدين العام إلى هذه المُستويات.

تُظهر المعلومات الموجودة على البوابة الإلكترونية لموقع رئاسة مجلس الوزراء أن هناك 10 حكومات تمّ تشكيلها منذ العام 1993 وحتى يومنا هذا. بدأت هذه الحكومات مع الرئيس رفيق الحريري (تشرين الأول 1992 – كانون الأول 1998)، سليم الحص (كانون الأول 1998 – تشرين الأول 2000)، رفيق الحريري (تشرين الأول 2000 – تشرين الأول 2004)، عمر كرامي (تشرين الأول 2004 – نيسان 2005)، نجيب ميقاتي (نيسان 2005 – تمّوز 2005)، فؤاد السنيورة (تمّوز 2005 – تشرين الثاني 2009)، سعد الدين الحريري (تشرين الثاني 2009 – حزيران 2011)، نجيب ميقاتي (حزيران 2011 – أذار 2013)، تمّام سلام (شباط 2014 – كانون الأول 2016) وإنتهت مع الرئيس سعد الدين الحريري (منذ كانون الأول 2016).

مُساهمة الحكومات في زيادة الدين العام

إن صرف الأموال وإصدار سندات الخزينة هي من مهام الحكومة اللبنانية كما نصّ عليه إتفاق الطائف. وبالتالي من الطبيعي تحميل مسؤولية الزيادة في الدين العام بالدرجة الأولى للحكومة مُجتمعة. من هذا المُنطلق، قمنا بدراسة لمعرفة مُساهمة الحكومات المُتعاقبة بهذه الزيادة.

المنهجية التي إعتمدناها في هذه الدراسة نصّت على مقارنة إرتفاع الدين العام بعمر كل حكومة (بالأشهر) إبتداءً من العام 1993 وحتى تمّوز 2016، لنعمد بعدها إلى حساب زيادة الدين العام الذي تحمّلته كل حكومة بالمطلق ونسبة إلى عدد أشهر الحكم (au prorata).

وتشير النتائج إلى أن حكومات الرئيس رفيق الحريري سجّلت أكبر إرتفاع للدين العام بقيمة 25.9 مليار دولار أميركي لفترة حكم 120 شهرًا. تليها حكومة الرئيس السنيورة مع 13.64 مليار دولار أميركي لفترة حكم 52 شهرًا، ثم حكومتي الرئيس ميقاتي مع 11.73 مليار دولار أميركي لفترة 24 شهرًا، حكومة الرئيس تمّام سلام 11.27 مليار دولار أميركي مع 34 شهرًا، حكومة الرئيس الحص مع 6.17 مليار دولار أميركي مع 24 شهرًا، حكومتي الرئيس سعد الدين الحريري مع 4.23 مليار دولار أميركي لفترة 25 شهرًا (حتى تمّوز 2017)، وأخيرًا حكومة الرئيس كرامي مع 1.28 مليار دولار أميركي لفترة 6 أشهر.

وتظهر الأرقام أن المّعدّل الوسطي للزيادة الشهرية في الدين العام تُغيّر التراتبية السابقةوتأتي حكومتي الرئيس ميقاتي في الدرجة الأولى مع 489 مليون دولار أميركي شهريًا، تليها حكومة الرئيس تمّام سلام مع 331 مليون د.أ، حكومة الرئيس السنيورة مع 262 مليون د.أ، حكومة الرئيس الحص مع 257 مليون د.أ، حكومتي الرئيس رفيق الحريري مع 216 مليون د.أ، حكومة الرئيس كرامي مع 213 مليون د.أ وفي المرتبة الأخيرة حكومتي الرئيس سعد الدين الحريري مع 169 مليون د.أ.

تحليل الإطار السائد في عهد هذه الحكومات

1- حكومة رفيق الحريري (تشرين الأول 1992 – كانون الأول 1998):الفترة التي سادت في فترة ما بعد الحرب أظهرت الضرر الكبير الذي خلفتّه الحرب الأهلية وهذا الأمر دفع بالرئيس الحريري إلى إعتماد مبدأ الرافعة في الإقتصاد والتي تنص على الإستدانة لتعظيم عائدات الإستثمارات. وقد إرتفع الدين العام خلال هذه الفترة بقيمة 15.7 مليار دولار أميركي كانت تهدف بالدرجة الأولى إلى إعادة تأهيل البنى التحتية والمرافق الحيوية حيث كان التركيز على بيروت ضمن خطّة سُمّيت بـ "Horizon 2000". وبفضل هذه الإستثمارات إرتفع نمو الإقتصاد اللبناني بنسب عالية قاربت الـ 8% في العام 1994 وإنخفض التضخم من مستويات كارثية إلى حدود الـ 30%. وكان للرئيس الحريري الفضل بتعيين رياض سلامة حاكمًا لمصرف لبنان والذي ساهم بشكلّ مباشر وأحادي في تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية.

السياسة الإقتصادية التي إتبعها الرئيس الحريري هي تطبيق لنظرية كينز وبالتالي كان من المفروض أن تعود بفوائد كبيرة على المالية العامة خصوصًا من خلال عائدات الضرائب. لكن الفساد والهدر الذين سادا في فترة ما بعد الحرب الأهلية زاد من الإنفاق العام وبالتالي لم يتمكّن الرئيس الحريري من إكمال خطتّه الإنمائية.

2- حكومة سليم الحص (كانون الأول 1998 – تشرين الأول 2000):الرئيس الحص كان رجل إقتصاد وقد حاول تخفيض الإنفاق عبر خطّة تقشفية في العام 2000، إلا أن هذه الخطّة بائت بالفشل مع تراجع النمو الإقتصادي إلى الصفر مما أدّى إلى أعباء إضافية على خزينة الدولة إرتفع معها المعدّل الوسطي لزيادة الدين العام إلى 257 مليون دولار أميركي شهريًا.

3- حكومة رفيق الحريري (تشرين الأول 2000 – تشرين الأول 2004):الفترة الثانية لحكومة الرئيس الحريري تميّزت بضغوطات إقتصادية كبيرة مع تفاقم المشكلات الإقتصادية والسياسية. وبالتالي كان للبنك الدولي وصندوق النقد الدوّلي دور كبير في الضغط على الرئيس الحريري من أجل خفض البيروقراطية وخصخصة المؤسسات العامّة نظرًا للأداء السيء للإدارة العامّة وإرتفاع التوظيف العشوائي في مؤسسات الدوّلة.

4- حكومة عمر كرامي (تشرين الأول 2004 – نيسان 2005):الظروف السياسية التي أتت فيها حكومة الرئيس كرامة، كانت ظروف صعبة وإنتهت بإستقالة كرامي على خلفية المُظاهرات الضخمة التي كانت تُطالب بإنسحاب الجيش السوري من لبنان. لذا لم يكن في هذه الحكومة أي خطط إقتصادية أو إدارة مالية للإنفاق العام وإقتصر عمل هذه الحكومة على تخطّي الأزمات السياسية التي عصفت بلبنان وعلى رأسها إغتيال الرئيس رفيق الحريري.

5- حكومة نجيب ميقاتي (نيسان 2005 – تمّوز 2005):حكومة الرئيس ميقاتي أتت على إثر إستقالة حكومة الرئيس كرامي ومع قرب الإنتخابات النيابية في العام 2005، أعتبرت هذه الحكومة القصيرة العمر حكومة إنتخابات ولم يتمّ وضع أية خطط إقتصادية أو مالية لتحفيز الإقتصاد ولجم الدين العام.

6- حكومة فؤاد السنيورة (تمّوز 2005 – تشرين الثاني 2009):عهد الرئيس السنيورة إتصف بالخضّات الأمنية من عدوان تمّوز 2006 وأحداث 7 أيار وما رافقها من إنقسام سياسي كبير حال دون أي سيطرة على الإنفاق العام مما أدّى إلى الصرف على أساس القاعدة الإثني عشرية والإعتمادات من خارج الموازنة. ويُمكن القول أن حكومتي الرئيس السنيورة إتسمّت بالمُصالحات على حساب الخزينة العامّة وخصوصًا فيما يتعلّق بالتوظيف العشوائي.

وكان للنمو الإقتصادي الذي شهده لبنان نتيجة نمو القطاع العقاري تأثير إيجابي على المالية العامة من خلال الضرائب وبالتالي لعب هذا النمو عامل المُساعد في تخفيف الزيادة في الدين العام التي بلغت في عهد الرئيس السنيورة 13.34 مليار دولار أميركي.

7- حكومة سعد الدين الحريري (تشرين الثاني 2009 – حزيران 2011):لم تكن تجربة الرئيس الحريري في رئاسة حكومته الأولى سهلة خصوصًا مع الإنقسام السياسي الكبير الذي عرقل العديد من القرارات الإقتصادية وذلك بحكم أن إتفاق الطائف الذي يفرض التوافق في أخذ القرارات بين المكونات الأساسية اللبنانية. هذا الواقع السياسي الصعب جعل الأساس من عمل الحكومة تخطّي المشاكل السياسية والأزمات القائمة. ولعبت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان دورًا سلبيًا في ثبات هذه الحكومة التي إستقال فيها ثلث وزرائها.

8- حكومة نجيب ميقاتي (حزيران 2011 – أذار 2013):الأثار السياسية التي خلّفتها إستقالة حكومة الحريري إنسحبت على حكومة الرئيس ميقاتي. وإزدادت التعقيدات مع بدء الأزمة السورية ووصل مئات الألوف من النازحين السوريين مما أدّى إلى إضعاف الإقتصاد اللبناني وخصوصًا القطاع السياحي الذي تضرّر بنسبة كبيرة جرّاء هجرة السواح الخليجيين وسحب الإستثمارات الخليجية كردّة فعل على ما سُمّي بالإنقلاب على حكومة الرئيس الحريري. هذه الفترة شهدت إرتفاعًا ملحوظًا للإنفاق العام الذي ذهب لتغطية التوظيف العشوائي وكلفة النزوح السوري بالدرجة الأولى.

9- حكومة تمّام سلام (شباط 2014 – كانون الأول 2016): حكومة الرئيس تمّام سلام أتت للتحضير للإنتخابات النيابية لكنها بقيت 34 شهرًا واجهت خلالها صراعات سياسية طاحنة وإخفاق في الإدارة الإقتصادية والمالية للدولة مع الفراغ الرئاسي الذي دفع بالوزراء إلى التمتّع بسلطات رئيس الجمهورية مُجتمعين. وخلال هذه الفترة إرتفعت نسبة إقرار المناقصات العامّة بشكل ملحوظ مع إرتفاع تاريخي في عدد النازحين السوريين، مما أدّى إلى رفع الدين العام 11.27 مليار دولار أميركي جاعلًا هذه الحكومة في المرتبة الرابعة من ناحية الزيادة الشهرية في الدين العام.

10- حكومة سعد الدين الحريري (كانون الأول 2016 – تمّوز 2017):إنتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهورية أرسى أجواء إقتصادية إيجابية في لبنان. وعلى الرغم من ذلك، لم تستطع هذه الحكومة حتى الساعة وضع أية خطّة إقتصادية مع مرور أكثر من ستة أشهر على وجودها وبالرغم من إقرارها للعديد من الملفات الإقتصادية العالقة. لكن المُلفت في الأمر أن حكومات الرئيس سعد الدين الحريري هي التي حافظت على أقل مُستوى إرتفاع شهري في الدين العام بين الحكومات العشرة.

بالطبع هذا التحليل لا يهدف إلى تحميل رؤساء الوزراء المُتعاقبين مسؤولية الدين العام بل هو إضاءة على الواقع الذي واكب عمل هذه الحكومات والذي أدّى إلى إرتفاع الدين العام. ونهدف بذلك إلى دفع حكومة الرئيس الحريري الحالية إلى وضع خطّة للجم الدين العام وذلك من خلال لجم العجز الناتج عن التوظيف العشوائي والفساد والهدر المُستشريين في العديد من مؤسسات ووزارات الدولة.