يبقى ​الإنفاق العام​ المُشكلة الأساسية التي تواجهها الدولة اللبنانية في الموازنة. وإذا كانت لجنة المال والموازنة تسعى جاهدة إلى إقرار الموازنة قبل موعد الجلسة العامّة لمجلس النواب، إلا أن الإنحراف في الإنفاق والزيادة التي تطاله سنويًا تدفع بلبنان نحو فقدان سيادته المالية.

إرتفع مُستوى الإنفاق العام في الدولة اللبنانية من 6٫99 مليار دولار أميركي في العام 2004 إلى أكثر من 13 مليار دولار أميركي في نهاية العام 2016 أي بزيادة 86% خلال 12 سنة. هذه الزيادة التي تُشكّل 13% من الناتج المحّلي الإجمالي، تذهب بمعظمها إلى ثلاثة بنود رئيسية هي الإجور، خدمة الدين العام، ودعم لمؤسسة كهرباء لبنان.

ويُعتبر بند الأجور المسؤول الأول عن هذه الزيادة مع إرتفاع من 3583 مليار ليرة سنويًا إلى أكثر من 7100 مليار ليرة سنويًا. ويعود هذا الإرتفاع إلى سياسة التوظيف العشوائية التي إتبعتها الحكومات المُتعاقبة منذ العام 2004 وحتى اليوم.

أمّا بند خدمة الدين فقد إرتفع من 4941 مليار ليرة لبنانية في العام 2004 إلى 7185 مليار ليرة لبنانية في نهاية العام 2016. ويعود السبب في هذه الزيادة إلى الزيادة في الدين العام الناتجة عن العجز المُزمن منذ العام 2004 (40٫7 مليار دولار أميركي تراكميًا).

تحاويل وزارة المال إلى مؤسسة كهرباء لبنان أيضًا زادت مع الوقت حيث إرتفعت من 1479 مليار ليرة لبنانية في العام 2004 إلى 3408 مليار ليرة لبنانية في العام 2013 و3056 في العام 2014 لتُعاود إنخفاضها إلى 1711 في العام 2015 و1397 مليار ليرة لبنانية بحكم إنخفاض أسعار النفط العالمية. الجدير بالذكر أن حجم التحاويل لمؤسسة كهرباء لبنان منذ العام 2007 وحتى نهاية العام 2016 بلغ 15٫44 مليار دولار أميركي بحسب أرقام وزارة المال!

المُشكلة المطروحة هي أن الإنفاق الهائل (نسبة إلى المداخيل) للدولة اللبنانية يخلق عجزًا يتحوّل بدوره إلى دين عام وبالتالي تزيد خدمة الدين العام ومعه العجز في الموازنة ليزيد بذلك الدين العام... هذه الحلقة الفارغة يصعب الخروج منها مع الأسلوب الحالي من الإدارة المالية للدولة اللبنانية خصوصًا أن النمو الإقتصادي غير كاف لإمتصاص العجز وبالتالي سيأتي يومًا تُصبح فيه زيادة الدين العام إسّية (Exponential) مع الوقت حيث سيكون الإفلاس في إنتظار الدولة.

وقد يقول البعض، وهذا حقّ، أن المصارف اللبنانية تمتلك المال الوفير لتغذية عجز الموازنة. إلا أن معرفة أن المصارف تُديّن الدولة ما يزيد عن 55% من دينها العام (مصرف لبنان ما يوازي الـ 30%) وأن الأموال هي بالدرجة الأولى أموال مودعين، كفيل بإستنتاج أن هذه المصارف ستواجه أزمة بمجرّد أن تظهر علامات تعثّر في الدفع من قبل الدوّلة. وهذا ما دفع وكالات التصنيف الإئتماني العالمية بإعطاء المصارف تصنيف إئتماني أقلّ من تصنيف الدولة بحكم تدارك أخطار هذه المُشكلة.

اليوم يظهر إلى العلن وبوضوح أن لا حلّ لهذه الأزمة إلا عن طريقين: تحفيز النمو الإقتصادي و/أو تخفيض الإنفاق.

تحفيز النمو هو أساسي وهذا ما يجب العمل عليه في الأشهر المُقبلة مع إستكمال إعادة تكوين السلطة السياسية (صاحبة القرار الإقتصادي). وقد أتى لقاء بعبدا التشاوري ليدفع في هذا الإتجاه مع توصيات للحكومة اللبنانية بوضع خطّة إقتصادية تهدف إلى دعم القطاعات الواعدة ("عصرية"). إلا أن هذا الأمر يتطلّب أشهر وحتى سنين ليُعطي ثماره، وفي خلال هذه الفترة سيستمرّ الدين العام بالإرتفاع إلى مُستويات يصعب معها لاحقًا السيطرة على إرتفاعه!

لذا يتوجّب على الحكومة اللبنانية العمل على تخفيض إنفاقها العام من خلال طريقتين: الأولى وتنص على إعتماد خفض عام بنسبة 1% (مثلًا) على كافة بنود الموازنة وبدون إستثناء أي سيتمّ توفير ما يزيد على 2400 مليار ليرة لبنانية (أي 1٫6 مليار دولار أميركي). هذا المبلغ يُشكل حينها الإنخفاض في قيمة العجز وبالتالي سيتمّ إستخدام قسم من هذا الفائض لسد الدين العام.

الطريقة الثانية تنص على الدخول في البنود واحدًا تلو الأخر وخفض الإنفاق في الأماكن التي يُمكن التوفير فيها (بند السفر، والتجهيزات، والإيجارات...). هذا الأمر يتطلّب وقت أطول وهو أقرب إلى الواقع من الطريقة الأولى مع العلم أن هذه الأخيرة أعطتّ نتائج كبيرة في عدّة دول إوروبية إستخدمتها في تسعينات القرن الماضي.

يُشكّل الإنفاق العام اليوم ما يزيد 27% من الناتج المحلّي الإجمالي علمًا بأن المعايير تفرض أن تكون هذه النسبة أقلّ من 20% حيث أن الفرق يجب إستخدامه في تحديث الماكينة الإقتصادية التي وحدها كفيلة بتأمين نموٍ مُستدام.

من هنا نرى أهمّية إعادة التوازن إلى المالية العامّة وعكس المُنحنى الإنحداري للمالية من خلال لجم العجز وبالتالي الإنفاق وجعلّه أكثر فعّالية. وتلكئ السلطة في إتخاذ هذا الإجراء سيؤدّي إلى فقدان لبنان تنافسيته وحتى سيادته المالية وذلك عبر تدخّل المُنظّمات الدولية مثل صندوق النقد الدولي وما له من شروط تقشفية سيفرضها حتمًا إذا ما طلب لبنان مُساعدة مالية كما فعلت مصر. وعلى هذا الصعيد، فإن كلفة الإعانة الدولية لمصر (12 مليار دولار) رفعت الأسعار إلى أكثر من ثلاثة أضعاف ما كانت عليه قبل طلب المُساعدة. أيضًا يتوجّب ذكر حالة اليونان وما يواجه سكّانها من تردّي للوضع الإجتماعي نتيجة الإدارة السيئة للمالية العامة والشروط التي فرضها صندوق النقد الدولي لمُساعدة اليونان.