مع إقتراب موعد الجلّسة النيابية في منتصف هذا الشهر، تتكاثر الأحاديث حول إقرار موازنة العام 2017. وإذا كان لهذه ​الموازنة​ أهمّية رمزية على صعيد إقرار موازنات الدولة، إلا أنها تبقى من دون جدّوى فعلية. من هنا تتجه الأنظار إلى موازنة العام 2018 التي يجب أن يحترم تحضيرها وإقرارها وتنفيذها خطّة علمية.

إن إقرار موازنة العام 2017 هو أمر ضروري من ناحية رمزية هذا الحدث الذي يأتي بعد 12 سنة على غياب موازنات الدولة اللبنانية. إلا أن التأخر الذي حصل في إقرارها ونحن في الشهر السابع من السنة يطرح أسئلة عن فعّالية التخطيطات في هذه الموازنة إن على صعيد الإيرادات أو على صعيد الإنفاق.

فعلى صعيد الإيرادات، لن تدّخل هذه الموازنة حيز التنفيذ إلا في الشهر الثامن (في أحسن الأحوال) مما يعني أن كل الإيرادات المرصودة في هذ الموازنة هي إيرادات غير دقيقة بحكم التعلّق الخطّي للإيرادات بعامل الوقت.

أمّا على صعيد الإنفاق، فإن الإلتزامات التي قامت بها الحكومة في مشروع موازنة العام 2017 هي إلتزامات غير قابلة للتطبيق بحكم أن الإنفاق الحالي يستمر على أساس القاعدة الإثني عشرية وعلى أساس فتح إعتمادات من خارج الموازنة. وللتذكير فإن نصف الإنفاق هو من خارج الموازنة وبالتالي بأحسن الأحوال سيكون إنفاق هذا العام مُساوٍ لإنفاق العام الماضي.

الأن وقد دخلنا في زمن تحضير موازنة العام 2018، نرى أنه من الضروري على الحكومة أن تعمد إلى إتباع منهجية علمية ودقيقة في تحضير موازنة العام 2018 لكي لا يكون مصيرها كمصير موازنة العام 2017. هذه المنهجية تتبع عدد من المراحل الأساسية والتي تخلق إجماع وطني على مُحتواها وعلى تنفيذها بغض النظر عن اللعبة السياسية التي تتبعها القوى السياسية من تعطيل ونقض للماضي وغيره. وفيما يلي المراحل الأساسية التي يتوجب على الحكومة إتباعها.

المرحلة الأولى – التحضير الأولي

في هذه المرحلة تأخذ الحكومة على عاتقها (من خلال وزاراتها ومؤسساتها) القيام بالخطوات التالية:

أ- قطع الحساب: إن قطع الحساب هو أمر أساسي في مالية الدولة ويهدف بالدرجة الأولى إلى ضبط الإنفاق. ولا يجب أن يكون أداة سياسية تستخدمها القوى في اللعبة السياسية. وإذا كان الدستور قد فرض المُصادقة على قطع الحساب قبل المُصادقة على الموازنة، فالهدف هو بالدرجة الأولى التأكد من صلابة الحسابات المالية للدوّلة وما قد يخلق من تداعيات في حال عدم معرفة الإنفاق بدقّة.

ب- حساب دقيق للدين العام والإستحقاقات المالية: هذا الخطوة هي خطوة حيوية تهدف إلى تفادي المُفاجئات كتلك التي حصلت في العام 2015 مع ظهور إستحقاقات مالية على الدولة لم تكن مرصودة. وهذه الخطّوة تتمّ بالتعاون مع مصرف لبنان الذي يُلمّ في قضايا الدين العام.

ج- تقييم المؤشرات الإقتصادية: ويشمل دراسة ماكرو إقتصادية للوضع الإقتصادي العام وهذا الأمر يتطلّب أرقام إحصائية يتوجّب على الإدارة المركزية للإحصاء القيام بها. الهدف الأساسي من هذه الخطّوة هو نمذجة الإقتصاد اللبناني من خلال المُعطيات الماكرو الإقتصادية وتحويلها إلى أداة عمل لدوّزنة السياسة المالية.

د- تقييم القطاعات الإقتصادية: هذه الخطّوة تهدف إلى إلى دراسة ميكرو إقتصادية لواقع القطاعات اللبنانية كافة وتشملّ مسح كامل للقطاعات الإنتاجية كافة بهدف معرفة قوى الضعف والقوّة في الإقتصاد اللبناني.

المرحلة الثانية–تحديد المُعطيات

هذه المرحلة تضمّ شقيّن أساسيين:

أ- جدول الدفع والقبض: والذي يهدف بالدرجة الأولى إلى تحديد إستحقاقات الدولة القادمة من دين عام وأجور وغيرها من إنفاق. هذه الخطّوة تُعد خطوة مركزية للسيطرة على الدين العام ولتحديد الإنفاق من ناحية خلق رزنامة كاملة تمتدّ على فترة عشرة سنوات أقلّه.

ب- تحديد حاجات القطاعات الإقتصادية: هذه الخطّوة تتمّ عبر إشراك القطاع الخاص، المصارف، النقابات العُمّالية، ومصرف لبنان. وفي نهاية هذه الخطوّة يكون لدى الدوّلة اللبنانية جدّول كامل بحاجات القطاعات الإنتاجية كما وأماكن ضعفها وقوّتها (Complete Typology).

المرحلة الثالثة–الخطّة الإقتصادية

هذه المرحلة تأخذ نتائج المرحلة السابقة – أي جدول الدفع والقبض وجدّول حاجات القطاعات الإقتصادية – كمدّخل لها (Input) إضافة إلى السياسة النقدية التي يُحدّدها مصرف لبنان (حصّريًا بحكم القانون). الخطّة الإقتصادية تحوي إستراتيجية الحكومة (Pivotal Strategy) في ما يخصّ رؤيتها للنهوض الإقتصادي وتتمّ إستشارة مصرف لبنان في الأمر لدوّزنة السياسة النقدية إذا لزم الأمر كما والقطاع الخاص والنقابات العُمّالية بهدف أخذ الأراء والحصول على إجماع.

المرحلة الرابعة–مشروع الموازنة

المرحلة السابقة تعطي بشكل واضح السياسة المالية التي إعتمدتها الحكومة في خطّتها الإقتصادية. هذه السياسة يتمّ ترجمتها في وزارة المال إلى مشروع موازنة وترفعه إلى مجلس الوزراء لدراسته.

المرحلة الخامسة–الإجراءات القانونية

تقوم الحكومة باللمسات الأخيرة على مشروع الموازنة قبل إقراره في جلسة مُخصّصة يتم فيها إقرار قطع الحساب ومشروع الموازنة كما ومشاريع القوانين الإصلاحية المواكبة لمشروع الموازنة (الشراكة بين القطاع الخاص والعام، السياسة الضريبية، مُكافحة الفساد...). من ثمّ تُحيل الكل – أي قطع الحساب، مشروع الموازنة والقوانين المرافقة– إلى مجلس النواب لإقرارها.

المرحلة السادسة – البدء بالتطبيق

إن إقرار مشروع الموازنة في المجلس النيابي والقوانين المرافقة له هي نقطة الإنطلاق للحكومة لكي تضع لائحة بالأولويات الواجب تنفيذها. هذه اللائحة هي مثل الـ breakdown structure في إدارة المشاريع حيث يتمّ ربط الإجراءات فيما بينها وتحديد تاريخ بدء وإنتهاء العمل على كل إجراء.

هذه المنهجية الآنفة الذكر هي منهجية علمية تأخذ بعين الإعتبار عدد من التوجّهات الإقتصادية والإجتماعية مثل إستدامة النمو، التوازن المناطقي، السيطرة على الدين العام، التقشّف... وتقوم بوضع الخطّة الإقتصادية على أساس هذه التوجّهات التي من المفروض بحسب القانون أن تأتي من السلطة التنفيذية والتشريعية.

في الختام لا يسعنا القول إلا أن بناء الدوّلة المالي هو آلية علمية تتبع أسس وطرق مُحدّدة وكل شيء أخر خارج هذه الأطر يبقى من باب "الترقيع".