سجّل العام 2016 إرتفاع تاريخي لأصول أربعة مصارف مركزية في العالم (الإحتياطي الفيدرالي، الصيني، الأوروبي والياباني) والتي أصبحت تستحوذ على ثلاثة أرباع الأصول للمصارف المركزية في العالم. هذا الأمر يطرح أكثر من علامة إستفهام حول قدرة هذه المصارف على خفض حجم مُستحقاتها التي ترتفع بإرتفاع أصولها.

الأزمة المالية التي عصفت بالإقتصاد العالمي وبنظامه المالي في العام 2008، غيّرت بشكل جذري عمل المصارف المركزية من ناحية أهدافها وسبب وجودها. فمهمة الإحتياطي الفديرالي كما ورد في ميثاقه ينص على تحفيز سوق العمل والمُحافظة على قيمة الدولار الأميركي.

وهذا الأمر سمح للإحتياطي الفديرالي بالقيام بعمليات دعم في الأسواق. إلا أن نهج هذا المصرف تغيّر منذ العام 2008 حيث عمدت إدارته إلى دعم الدولة الأميركية من خلال برامج تسييل الديون السيادية (QE1، QE2، QE3، والـ Twist Plan). المُشكلة على هذا الصعيد تكمن في أن أصول الإحتياطي الفديرالي إرتفعت من أقل من تريليون دولار أميركي في أوائل العام 2008 إلى 4.2 تريليون دولار أميركي حاليًا! هذه الأرقام الخيالية تطرح مُشكلة المُستحقات على الإحتياطي الفديرالي بحكم أن هذه الأخيرة تزداد بشكلّ خطّي مع إزدياد الأصول أي بمعنى أخر، يعمد الإحتياطي الفديرالي إلى رفع مُستحقاته في كل مرة يعمد إلى شراء سندات خزينة أميركية (بنفس القيمة). ولتمويل عملية الشراء، هناك عدّة إحتمالات: منها طبع العملة، إستخدام الإحتياط من العملات، الإستيدانة، وبيع الأصول. ويبقى طبع العملة (أي الدولار الأميركي) هو الأكثر إستخدامًا مما يؤثر سلبًا على قيمة الدولار الأميركي، لكن إنخفاض العملات الأخرى بحكم الأزمة سمح للدولار بالمحافظة على قيمة نسبية مقارنة بالعام 2008.

حال المصارف المركزية الأخرى ليست بالأفضل، فقد عمد المصرف المركزي الأوروبي إلى شراء 1000 مليار دولار أميركي من ديون الدول الأوروبية في ظل برنامج التسييل الكمّي وذلك في فترة لا تزيد عن 18 شهر! ليُصبح بذلك المركزي الأوروبيفي المرتبة الثانية بعد الصين في حجم الأصول والمُستحقات. وقد عمد ماريو دراغي – حاكم المصرف المركزي الأوروبي – إلى إقتباس الطريقة الأميركية من خلال شرائه لسندات الخزينة للدول الأوربية على معدّل شهري 80 مليار يورو. هذا الأمر يضع المركزي الأوروبي في دائرة الخطر ويطرح السؤال عن مدى قدرته على تخفيض حجم أصوله مع الوقت؟

وبحسب بيانات "بلومبرغ" (Bloomberg)، فإن المُقرضين الأربع الأوائل يمتلكون 21.4 تريليون دولار أميركي أي ما يوازي ثلاثة أرباع الأصول التي تمتلكها المصارف المركزية العالمية مع زيادات خيالية في فترات قصيرة من الزمن. هذه الزيادات المُتسارعة تأتي في ظل النقاشات عن إحتمال حدوث فقاعات في سوق السندات التي إرتفعت أسعارها إصطناعيًا بفعل الشراء المُفرط لسندات الخزينة من قبل المصارف المركزية.

وبحسب "بلومبرغ"، فإن حجم أصول المصارف المركزية الأربعة يوازي أكثر من 30% من حجم الإقتصاد العالمي (أكثر من ضعف ما كان عليه في العام 2008)! و75% من الأصول المالية في المصارف المركزية تُسيطر عليها المصارف المركزية الأربعة في حين أن المصارف المركزية الأخرى تُسيطر على الـ 25% الباقية.

هذا الواقع يُنذر بمخاطر جمّة قد تطال النظام المصرفي والمالي العالمي من ناحية أن عدم السيطرة على حجم الأصول في المصارف المركزية قد يدفع إلى خلق فقاعات في سوق السندات ورفع هائل لأسعار الفائدة. كما أن هناك إحتمال لأن تختفي الأصول المؤهلة (Eligible) لبرامج التسييل الكمّي الأوروبي خصوصًا الألمانية منها نظرًا لفقدان التجانس الإقتصادي بين الإقتصاد الألماني وإقتصادات دول منطقة اليورو الأخرى.

من هذا المُنطلق، نرى أن هناك ضرورة للجم إرتفاع الأصول التابعة للمصارف المركزية الأربعة. هذا الأمر أصبح في ذهن أصحاب القرار كما تلحظه تصريحات المسؤولين على غرار جانيت يلين – حاكمة الإحتياطي الفديرالي – التي وبعد رفعها مُعدلّ الفائدة على الدولار الأميركي، صرّحت أن الإحتياطي الفديرالي سيبدا عملية تخفيض أصوله وذلك إبتداءً من أيلول المُقبل. هذا الأمر يمرّ إلزاميًا عبر خفض حجم السندات الأميركية التي يشتريها الإحتياطي الفديرالي شهريًا حيث من المُتوقّع أن ينخفض من 80 إلى 30 مليار دولار شهريًا خلال 12 شهر.

من ناحيته ألمح دراغي إلى أن المركزي الأوروبّي سيبدأ عملية لجم زيادة أصوله الناتجة عن شراء سندات خزينة تابعة لدول منطقة اليورو لكنه لم يُعطي تفاصيل عن الموضوع ولا أي أجندة مما يترك هامش تحرّك المركزي الأوروبي أكبر ويؤثر سلبًا على مصداقية اليورو الذي من المُتوقّع في ظل غياب نمو إقتصادي مُستدام في منطقة اليورو، أن يتراجع بشكل ملحوظ.

المصارف المركزية الأخرى أي الصيني والياباني لم تُعطي أية تفاصيل في هذا الخصوص. وإذا كان هذا الأمر مُستغرب من قبل المركزي الياباني الذي يحترم آلية السوق بكامل تفاصيلها، إلا أنه ليس مُستغربًا في حال المركزي الصيني الذي يعتمد الغموض كثيرًا في إجراءاته ونواياه تجاه عملته اليوان.

في المُطلق، هناك شكوك حول قدرة هذه المصارف على تخفيض أصولها من ناحية أنه لا يوجد حتى اليوم أي نمو إقتصادي مُستدام يسمح لهذه المصارف بالبدء بعرض أصولها للبيع من دون أن يكون هناك إنهيار في أسعار هذه السندات.

في الختام، لا يسعنا القول إلا أننا نأمل أن لا تطال هذه الآفة المصرف المركزي اللبناني في ظل إشارات إلى بدء تدخّل السلطة السياسية في السياسة النقدية.