أقر مجلس الوزراء في جلسته الأخيرة التمديد لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة لولاية جديدة مدتها ست سنوات. وبغض النظر عن أن سلامة يشغل هذا المنصب منذ العام 1993 أي لمدة أربعة وعشرين عاماً إلا أنه مبتكر الهندسات المالية ومحل ثقة للبنانيين جميعاً لما لديه من خبرة كبيرة في التعامل مع الأزمات المالية ولما يوليه من أهمية لحماية الليرة اللبنانية وخاصةً في هذا الوقت الذي يحاول فيه لبنان النمو رغم الظروف الإقليمية والتغيرات المختلفة التي تحصل على الساحة الدولية من "البريكست" أى رئاسة دونالد ترامب للولايات المتحدة للعلاقات العربية-العربية غير المستقرة.

ويتزامن التجديد لسلامة مع دراسة الكونغرس الأميركي لمشروع قانون جديد الذي يضيف إجراءات أكثر صرامة على القانون 2297 الهادف إلى تضييق الحصار المالي على "حزب الله" والجهات المقربة منه، وهو سمى الأمين العام للحزب، وأعضاء المكتب السياسي في الحزب، ونواب الحزب (من بينهم وزراء في الحكومة)، وغيرهم من الأعضاء البارزين في الحزب، وحركة أمل أو كيانات أخرى مرتبطة يمكن لوزير الخزانة الأميركي أن يقرر ارتباطها.

وكان سلامه قد أعرب عن قلقه إزاء انعكاسات العقوبات الجديدة على لبنان، وقال "إننا نشعر بالقلق لأننا لا نعرف حتى الآن سوى وجود مشروع، واليوم نحن بحاجة إلى فتح قناة اتصال على مستوى البلاد ككل لأن التعديلات المطروحة توسع دائرة المستهدفين، وهو أمر يمثل مشكلة وصعوبات للبنان ولقطاعنا المصرفي"، إلا أن أحداً لا يشكك بقدرة سلامة وشبكة علاقاته الواسعة التي ستمكنه من التعامل مع مشروع القانون هذا تماماً كما تعامل مع العقوبات في عام 2016.

أما لمعرفة تأثير التجديد لسلامه على الصعيد الداخلي والإضطلاع على تفاصيل أخرى كان لـ"الإقتصاد" هذا اللقاء مع الخبير الإقتصادي والمالي​كمال حمدان​، الذي تحدث عن نقاط القوة ونقاط الضعف في سياسات مصرف لبنان التي نجحت في السيطرة على التضخم الذي وصل متوسطه السنوي إلى 110% في الفترة ما بين العامين 1984 و 1994، مروراً بالعام 1987 الذي بلغ فيها متوسط التضخم 510%، "ولكن سياسة تثبيت النقد التي اعتمدها البنك المركزي منذ العام 1993 والتي أسهمت في ضبط التضخم عند معدّل وسطي يقلّ عن 4% سنويا، انطوت في المقابل على مشاكل أخرى أهمها تدهور القوة الشرائية للأجور بفعل التغاضي المتمادي عن تصحيحها على مدى عقدين، وأبرز مثال على ذلك يتمثّل في عدم إقرار سلسة الرتب والرواتب. وهذا ما أدّى "إلى خلل فظيع في توزيع الناتج المحلي بين الأرباح الرأسمالية والأجور".

وتابع: "كذلك نجح مصرف لبنان مبدئيا في تأمين استقرار سعر صرف الليرة تجاه الدولار الأميركي (وأشدد هنا على أن عملية الربط إقتصرت على تثبيت سعر الليرة تجاه الدولار الأميركي دون سائر العملات الأجنبية الأخرى)، ولكن هذا النمط من الربط أدّى فعليا الى إرتفاع كبير وغير مبرّر في سعر الصرف الخارجي لليرة اللبنانية تجاه سلّة العملات الأجنبية، ما جعل القدرة التنافسية لانتاجنا المحلي من السلع والخدمات تتراجع على نطاق واسع. وهذا ما أثّر سلبا على صادراتنا الزراعية والصناعية، حيث سجّل هذا القطاعان ضمورا نسبيا حادا في العشرين سنة الأخيرة.

وأضاف حمدان أن "هذا الربط بين الليرة والدولار أدى الى ازدياد وزن القطاعات المنتجة للسلع والخدمات غير القابلة للتداول (non-tradable goods and services)وساهم في تشويه آليات الإستثمار في البلد. وإذا كان مصرف لبنان قد نجح بنسبة كبيرة في تغطية عجز الدولة المالي، الا أنه تحوّل في السنوات الأخيرة إلى "مقرض نهائي" وشبه وحيد للدولة، مما أدّى الى ارتفاع حاد في مستوى المخاطر على الدولة والإقتصاد الوطني في آن معا، والى نقل مليارات الدولارات من المال العام إلى المال الخاصعبر الهندسات المالية المتتابعة، لا سيما تلك التي نفذّت مؤخراً،والتي طغت عليها هموم "شراء الوقت" أي تأجيل الانفجار أكثر مما طغت عليها مهمّة إيجاد حول ناجعة للأزمة الاقتصادية والمالية.

وأشار إلى أنه "بعد حمسة وعشرين عاماً من السياسات النقدية التي تشابكت فيها نقاط القوة والضعف بشكل عضوي،تطرح أسئلة كبيرة حول مدى جواز استمرار اعتماد هذه السياسات ذات الكلفة الاقتصادية والاجتماعية الباهظة، وحول ما إذا كانت تلك السياسات تحفّزفعلاً الإقتصاد اللبناني على النمو وفق المعدلات المطلوبة أم أنها تزيد وتعمّق من ازمة الإقتصاد الحقيقي في لبنان.

ولفت حمدان إلى أن "الأزمة الإقتصادية الراهنة أكبر بكثير من مسألة التجديد لحاكم مصرف لبنان رياض سلامه أو عدم التجديد له أو تعيين أي حاكم آخر. وإن لم بتم إجراء تغييرات في السياسات الكلية التي تطال الإقتصاد الحقيقي وتعيد الإعتبار للإستثمار العام الذي لم يتجاوز خلال ثلاثين عاماً نسبة 8% من مجموع نفقات الدولة، بما يشمل إعادة تأهيل المرافق العامة الرئيسية من كهرباء ومياه وغيرها، وإعادة ضبط الإنفاق غير المجدي الذي لا يطال الأمور الإنمائية وإصلاح النظام الضريبي المتحيّز ضد الفقراء،... فإن أثر التجديد للحاكم سيبقى أثر محض نفسي وينحصر في موضوع الثقة وما إلى هنالك.

وعن كيفية مواجهة سلامه لمشروع العقوبات الأميركية الجديد الذي يحكى عنه على فئة سياسية لبنانية، خاصةّ وأنه يتم تداول أخبار عن بدء تحضيراته لزيارة واشنطن، رأى حمدان أن الإيجابية المبدئية المتأتية عن التجديد لسلامة تكمن في مسار التجارب والعلاقات الطويلة التي قامت بينه وبين الأطراف النقدية الدولية، لا سيما الأميركية، خلال المدة التي قضاها في رئاسة البنك المركزي. "وقد يتيح تراكم هذه التجارب العلائقية السابقة للسلطات النقدية اللبنانية بعض هوامش المناورة مع السلطات الأميركيةويؤخر بعض الشيء مفاعيل العقوبات الجاري الترويج لها...ولكن ينبغي أن لا نتجاهل أن الجهات التي تعمل على فرض العقوبات إنما تقوم بذلك لأهداف سياسية محدّدة وهي تستقوي بقدراتها غير المحدودة على تقرير السياسات النقدية والمالية الدولية من موقعها الإقتصادي المسيطر عالمياً، مما يعني أن الأمر لا يتوقف عند هوية حاكم مصرف لبنان بالذات.

وأضاف: "واهم من يعتقد، من المعنيين بفرض هذه العقوبات، أنه قادر على أن يطال فئة دون غيرها من الفئات اللبنانية إذا ما أمعن في تمرير العقوبات تجاه لبنان، لأن إقتصادنا في النهاية هو إقتصاد ريعي صغير، ومصالح البلد الأساسية شديدة الإرتباط بواقع العملة الوطنية وإسنقرارالسياسة النقدية، وبالتالي فانه من الصعب جداً استهداف فئة دون الأخرى من اللبنانيين. وأيّ دعسة ناقصة من جانب السلطات الأميركية لا يمكن تفسيرها إلا بصفتها تعبّر عن تغيير أساسي في الموقف السياسي الأميركي الاستراتيجي من مسألة إستقرار البلد ووجوده وديمومته.