في بلد تغيب عنه السياسات الإقتصادية والإصلاحية الشاملة، تبرز بعض الشخصيات اللبنانية القادرة على إيصال لبنان إلى بر الأمان من خلال خطط وإقتراحات مدروسة ناتجة عن خبرات متراكمة ورؤى واضحة.

شخصيتنا اليوم مميزة بكل ما للكلمة من معنى، تميّزها يكمن في خبرتها الطويلة في أهم مركز عالمي وهو "البنك الدولي"، الذي عمل خلاله على السياسات والاصلاحات الاقتصادية والتنموية والمالية والقطاعية.

هذا اللبناني شغل مراكز عدة آخرها، مستشار أوَّل للشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ولم يكتف بهذا القدر فبين الأعوام 2011 و2014 إستلم منصب مستشار الشؤون الاقتصادية والتنمية لرئيس مجلس وزراء لبنان، ويتابع للحين دوره كمستشار للرئيس نجيب ميقاتي للسياسات والاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والمؤسساتية. كما هو عضو مجلس إدارة "المركز الماروني للتوثيق والأبحاث".

تجربته تجمع بين اقتصادات الدول النامية والناشئة في الشرق الأوسط، وأوروبا الشرقية، وأفريقيا وآسيا.

فهذا البلد الصغير الذي يحمل اكبر الهموم وأفضل الطاقات في آن معاً .. يفتخر اليوم بمواطنين رفعوا إسم بلدهم في العالم كشخصيتنا اليوم.. د. سمير الضاهر، الذي خصّ "الإقتصاد" بمقابلة حصرية شاركنا فيها أبرز محطات حياته الأكاديمية وشرح لنا عن مسيرته في البنك الدولي وعمله كمستشار إقتصادي للرئيس ميقاتي.

كيف تختصر مسيرتك الأكاديمية؟

بعد الدراسة الثانوية في "البعثة العلمانية الفرنسية" إلتحقت بمعهد الدراسات الرياضية في بيروت "Centre d'Etudes Mathématiques" التابع لجامعة "ليون" لأتخرّج بشهادة ماجيستر في الرياضيات. دخلتُ من ثُمّ غلى "المعهد الوطني العالي للمناجم في باريس" Ecole Nationale Supérieure des Mines de Paris حيث تابعتُ، بعد نيل شهادة الهندسة،العمل كباحثٍ لتحضير أطروحة علمية.

وجدير بالذكر أن "Mines de ParisEcole des" رغم ما يوحي إسمُها هي من كبرى مراكز الدراسات الاقتصادية في فرنسا، من أساتذتها أول فرنسي مقيم حامل جائزة نوبل في الاقتصاد Maurice Allais ومن خرِّجيها مُدراء كبار المؤسسات والشركات الوطنية والمصارف الفرنسية. كما تابعت بعدها دراسات في الاقتصاد والتاريخ في كليات جامعة باريس.

ما هي الصعوبات التي واجهتها خلال مسيرتك المهنية الحافلة بالمحطات المتعددة؟

قبل انضمامي إلى البنك الدولي في واشنطن، عملت في فرنسا في استشارات إدارة الأعمال، والهندسة الإنشائية في كُبرى الشركات الفرنسية.

يتطلّب ثلاثة عقود ونيف في البنك الدولي، مؤسسة واسعة الانتشار عبر دول المعمورة (180) تتعاطى في شتّى القطاعات، قسطاً وافراً من المرونة والتأقلم مع سياسات وأساليب ومعايير المؤسسات الكبرى، ومع زملاء موظّفين من بلاد متعددة وحضارات وثقافات مختلفة. كما أن التعامل مع مسؤولي الدول الأعضاء، صغارهم وكبارهم، كان بين الحين والحين على جانب من الصعوبة خاصة عند إبرام اتفاقات لتطبيق سياسات وإصلاحات يُموِّلها البنك الدولي ويعتبراها أساسية للنهوض باقتصاد البلاد في المديَيْن المتوسط والطويل، بينما ينظر المسؤولون إلى وقْعِها السياسي والانتخابي في الأمد القصير. وإنني أعتبر خبرة البنك الدولي والتجربة المستمدَّة من مختلف البلدان والقارات، تأهيلاً موآتياً لخوض غمار العمل في القطاع العام في البلد الأم، لبنان. بيد إن كانت هذه التجربة والخبرة مع غيابٍ طويل خارج لبنان، موضع إنتقاد من الذين لا يوافقون على الاقتراحات والحلول التي طرحتُها كمسؤول في رئآسة مجلس الوزراء، وما أزال في عملي في الحقل العام – والتى يعتبرونها "حلولاً مُنْزَلَة لا تتجانس مع الواقع اللبناني".

بصفتك مستشاراً سابقاً لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي ما هي النصيحة التي تقدمها لرئيس الحكومة الحالي سعد الحريري خاصة من الناحية الاقتصادية؟

أمام الشلل السياسي والمؤسساتي والتغاضي عن أحكام الدستور واسحقاقاته من انتخابات رئاسية ونيابية، وتهالك البني التحتية، ووطء النزوح السوري العارم، فإن على لبنان الحذر ألا تغدو إدارة الشأن العام فيه أشبه بمُمارساتِ الدولِ الفاشلة، العاجزة عن تأمين حاجات المجتمعٍ الأساسية.

فدولةٌ غير قادرة بعد ربع قرن على إنتهاء الحرب الأهلية على توفير مياه الشفّة وتوليد الطاقة الكهربائية الكافية، وإدارة حركة المرور والنقل العام، ووقف التدهور البيئي هي دولة فاشلة. دولةٌ تسمحُ بتراكمِ تلالِ النفاياتِ على أرصفةِ المدن ونثرها في الوديان والغابات هي دولة فاشلة. دولةٌ لا تعمل على تقليص عجزٍ مزمنٍ ودينٍ متنامٍ وإقرارِ موازنات تَحدُّ من الإنفاق الجاري العقيم في غياب الإنفاق الاستثماري هي دولة فاشلة. دولةٌ تسمح لأي صاحب مَطْلَبٍ، مهما حَقَّ، بإقفال الطرق الرئيسية والإحتلال غير المشروع للأملاك العامة هي دولة فاشلة.

لذا وجب العمل للعبور إلى دولة القانون لرفعِها من دوامة العجز عبر مبادراتِ إصلاحِية أهَمُّها تطبيق الدستورِ وترميمِ المؤسسات، وإصلاح الإدارة، ومكافحة الفساد،وحمايةِ حقوق الإنسان والمواطن، وتأمين استقلالية القضاء.ومن أولويات العمل الحكومي إصلاح المالية العامة بدءاً بإصدار قوانين موازنة شاملة وشفّافة، إذ أن الموازنة ليست فقط آلية لجباية الإيرادات، بل أداة جوهرية لتجسيد رؤية الحكومة الاقتصادية وتحفيز النمو بتحديد أولويات الإنفاق وضبط العجز والدين العام المتناميَيْن.

أما اليوم، ولبنان يعاني من تداعياتِ ركودٍ إقتصادي إقليمي نتيجةَ مخاطر أمنية وهبوطِ أسعارِ النفط، نَضَبَت من جرّاءِها ومن فقدانِ الثقةِ بعملِ المؤسسات، حركةُ الإستثمارِ، يجب تكثيف الدعم لمبادرات القطاع الخاص، المحرك الرئيسي لعجلة الاقتصاد، وتعزيز قدراته باعتماد إصلاحات قانونية وتنظيمية وضريبية لإزالة العوائق الهيكلية القائمة منذ عقود والتي حالت دون تحقيق النمو المنشود وتحفيز سوق العمل.

وفي هذا الإطار يجب التركيز على سبيل المثال لا الحصر على:

تأمين مناخ مؤآتىٍ لتشجيع حركة "الاستثمار الأجنبي المباشر" لما يواكبه من خبرة تقنية اساسية لدفع الاقتصاد المعرفي

تحفيز حركة الصادرات اللبنانية (خاصة نظراً للأوضاع الناتجة عن تعثُّر الخطوط البريّة عبر سوريا) التي يمكن لها تحقيق نموٍّ أعلى، ما يقلّص عجز الميزان التجاري البالغ الارتفاع، ويعزّز ميزان المدفوعات

تنشيط حركة السياحة باعتماد آليات فعّالة وحديثة لاسترجاع مكانة لبنان في السياحة التقليدية، وتسويقه كوجٍهةٍ للسياحة الدينية والثقافية والطبية.

كما وجب اليقين في الأنظمة اليموقراطية أن الحكمَ استمرارية، وإن تغيّرت وتعاقبت الحكومات. لذا فَحَريُّ أن يستلهم ويستفيد أي فريق حكومي جديد يتسلّم زمام السلطة من تجربة "الأسلاف" ومن دراساتهم وطروحاتهم واقتراحات مشاريعهم، خاصة أن القليل منها وُضِع حيِّز التنفيذ في السنوات المنصرمة نتيجة شلل مؤسسات وتعطيل عملها. وأخصُّ منها بالذكر "”برنامج الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي لفترة 2012 – 2016"، الذي أُعِدَّ إبّان حكومة الرئيس ميقاتي، وما يزال صالح للتطبيق بحرفيته.

برأيك ما هي السُبل لنهوض الاقتصاد اللبناني وعودته للسكة الصحيحة بعد أعوام من التراجع والمعاناة؟

إن الحلّ لنهوض اقتصادنا لا يَكْمُن في رأي "بالعودة للسكّة" التقليدية التي سار عليها للآن، بل من الضروري إعادة النظر بالنموذج الاقتصادي الذي خدم لبنان عقوداً طوال منذ الاستقلال، ليبلغ اليوم خواتيمه إذ بات عاجزاً عن دفع النمو وخلق فرص العمل. لقد حان الوقت للبنان أن يواجه تحديات وتطوّرات الاقتصاد العالمي، من تحوّل لا هواذ فيه في أساليب الإنتاج، ودور الابتكار والتكنولوجيا ووسائل التبادل والنقل السريعة، وسقوط الحواجز الجمركية. فلا خلاص للبنان إلا عبر تحقيق معدّلات نمو اقتصادية عالية ومستدامة، وخلق فرص عمل ذات قيمة مضافة عالية على نطاق يكفي للحَدّ من هجرة ذوي المهارات، وتقليص هوَّة الدخل الشاسعة بين مختلف المناطق والفئات الاجتماعية وتوزيع عائد النمو بطريقة أوسع، ومحاربة آفةِ الفقرِ. وما يزيد في التحديات، نظراً لنوعية ومكوّنات الاقتصاد اللبناني وأهمية وهيمنة بعض القطاعات، منها العقارية والمالية، هو تخلُّف معدَّلات نمو العمالة نسبةً للاقتصاد، حيث أن نمواً اقتصادياً بنسبة 1% لا يُضيف سوى 0.3% إلى حجم العمالة.

لذا فعلينا إعتماد المعرفة كأحدى المقوّمات الأساسية لاقتصادنا الوطني، وتوجيهه نحو القطاعات والأنشطة القائمة على العلم والابتكار المرتكزة على طاقاتٍ وافرة من الموهبة والمهارة، في موقعٍ جغرافي فَريدٍ يسمح للبنانَ تطوير نشاطات ذي قيمة مضافة عالية، كالبحوث العلمية والاستشارات والدراسات الاقتصادية والهندسية،والمحاسبة والتدقيق، والترجمة والنشر، والسياحة الطبية. كما يجب تركيز الجهود على دفع الانتاجية في المجالات التي تحمل ميزة تفاضلية نسبية تُمَكّن لبنانَ من تعزيز موقعه التنافسي، بحيث يُصبح مركزاً إقليمياً مهمّاً قادراً على توسيع حجم السوق المحلية وتمدّدها خارج حدوده الجغرافية الضيقة. ويمكن تحقيق ذلك عبر الحدّ من هجرة طاقات لبنان البشرية والاستفادة منها داخلياً لتصدير الخدمات والسلع في قطاعات الاقتصاد المعرفي، إضافة الى القطاعات التقليدية التي أرسى فيها لبنانُ موقعَه من زراعية وصناعية وحرفية وتجارية وسياحية ومصرفية وعقارية.

ما هي نصيحتك للشباب اللبناني الذي يسعى دائما للهجرة؟

إنا لا أُشاطر الرأيَ أن شبابَنا "يسعى دائماً إلى الهجرة"، بل شبابُنا "مرغَمٌ" على مغادرة أرضه ووطنه وأهله، إذ هو ضحية تهجير قسري ناتج عن تراكم عقود من الإستراتجيات الفاشلة والممارسات الخاطئة فيشتّى المجالات، من إتباع: سياسة اقتصادية قوَّضت قدرات لبنان التنافسية (تهالك البنى التحتية، إرتفاع معدّلات الفوائد وسعرالصرف، بطء وسوءالإدارة وكلفة الفساد،...) وحدَّت من إمكانيات التصدير في الاسواق الإقليمية، خارج السوق المحلية الصغيرة، في حين كان يجب توسيع عروض العمل بوظائف ذي قيمة مضافة عالية تتناسب مع طاقات الشباب، وتحافظ على مخزون لبنان من علم ومهارات؛ سياسة مالية تعثّرت إدارتها مع تفاقم العجز، وتوأمه الدين العام الذي يعتمد لتمويله على التدفّقات المالية الخارجية التي من ينابيعها الأساسية اليد العاملة اللبنانية في المهجر، ما يستلزم المضي بتهجيرها؛ وسياسة اجتماعية مُجْحِفَة تفتقر لنُظُم الحماية الأساسية من تغطية صحية ومعاش تقاعد، تُؤمِّن العيش الكريم للإنسان وتُحَرِّر المواطن من الإرتهان والتبعية لأصحاب النفوذ.

فمن هذا المنظور، أقول لشبابنا أن لبنانَ أرضُ إنتاجٍ وإبداعٍ وخلقٍ وعطاء، وليس مشغلاً لتصدير حملةِ الشهادات وذوي الخبراتِ والطاقات، وأتطلّع إليهم كي لا يستسلِموا لليأس بل يعملوا بعزم وجهد مع حركات المجتمع الأهلي في محيطهم وقُراهم ومراكز دراستهم وعملهم لتحقيق إصلاح سياسي وأخلاقي يُحَقِّق آمال الشعبَ، ويُعيد تصويب مسيرة الإنتاج بما لها من وقعٍ فعلي على حياةِ اللبنانيين ورِزقِهم، وتَقدّم مجتمعِهم، وتحسين حاضرهم مستقبلِهم وإرساء حقِّهم بالعملِ والعيشِ الكريم في وطنِهم، لا كَمُهاجِرين ومُهَجَّرين فيأقاصِي المعمورةِ. إني أدعوهم بما أوتِيوا من اندفاع وتَجَرّد لمخور بحر النضال السياسي نظراً لما للنظام السياسي من تأثيرعلى الواقعِ الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.