ال​كهرباء​ حديث الساعة .. وكل ساعة . فقد حزمت الحكومة ، أخيرا ، أمرها وأقرت خطة جديدة – قديمة لمعالجة جذرية ونهائية لازمة انقطاع التيار الكهربائي ، على أمل ان تلقى التغطية السياسية اللازمة لتطبيقها بحذافيرها ، لان فيها ، وعن حق ، نهاية النفق المظلم في هذا القطاع الحيوي .

وصف الخطة بالقديمة ليس من قبيل الذم او التشكيك ، فكل خطط الكهرباء التي اقرتها الحكومات المتعاقبة منذ عقود ، جيدة ، ولا عيب فيها ، وانما كانت المشكلة دائما في عدم تنفيذها ، بسبب التجاذبات السياسية ، معطوفة على مصالح مافياوية ، ان لجهة طرق تلزيم المشاريع الكبرى ، كانشاء معامل الانتاج ، او في تغطية عصابات اصحاب المولدات الخاصة. والواقع ان انتاج الطاقة كان عالقا في السنوات الماضية بين مطرقة الطامحين لبناء المعامل الجديدة ، لانتاج 1500 ميغاوات ، وما يرافقها منها من عمولات ، وبين سندان اصحاب المولدات التي ينتجون هذه الكمية، ويرون في اي خطة نهوض بالقطاع اعداما لهم.

تثير خطة الكهرباء ثلاثة أسئلة كبيرة ، تتعلق بالمدة المطلوبة لتنفيذها ، وبوقف الهدر ، وبالقرار السياسي الذي سيواكبها .

المولدات .. آفة سرطانية

يهول البعض ان الخطة تحتاج الى عشر سنوات لنصل الى كهرباء 24 على 24 ، وهذا غير صحيح . ف​لبنان​ يؤمن اليوم تغذية تقدر بـ 20 ساعة يوميا ، ولكن وجود مليون ونصف مليون نازح سوري ، خفض الاستفادة الى حوالى 15 ساعة يوميا، كمعدل عام. وكل ما نحتاجه ، فعليا ، هو بناء معملين بقدرة 1000 -1500 ميغاوات ، خلال 3 سنوات ، فاذا تم ذلك بالتزامن مع تناقص اعداد النازحين جذريا ، يمكن الوصول فعليا الى 22 او 23 ساعة يوميا، في منتصف العام 2020.

ثمة تجربة سابقة تؤكد امكانية تسريع بناء المعامل الجديدة ، ففي عهد الوزير جبران باسيل في وزارة الطاقة تمت مناقصة لبناء معمل دير عمار 2 ، ثم الغيت ، واجريت مناقصة بديلة خلال شهر واحد ، فقط ، وجرى التلزيم بقرار اسرع من مجلس الوزراء ، على ان يتم انجاز المعمل خلال سنتين او ثلاث ، حسب دفتر الشروط . ولكن المشروع لم ينجز لاسباب سياسية بحتة. واليوم هناك عشرات الشركات اللبنانية والاجنبية جاهزة للمشاركة في المناقصات فور اطلاقها من قبل وزارة الطاقة .

هذا اذا كان العمل الجاري لمصلحة القطاع العام ، اما اذا اطلقت يد القطاع الخاص لبناء معامل تبيع الكهرباء للدولة ، فان وتيرة العمل ستكون اسرع بكثير .

لذا فان الحديث عن عشر سنوات للحصول على الكهرباء على مدار الساعة ، ليس بريئا ابدا ، وعلى عكس ما يعتقده بعض الخبراء ، عن حسن نية وظن، فانه ينبغي الانتهاء في اقرب وقت من ظاهرة المولدات ، فالقائلون بالاستفادة منها يبررون ذلك بان الدولة ستعجز عن تأمين الـ 1500 ميغاوات المطلوبة ، اذا توقفت المولدات عن العمل ، الا ان المنطق السليم يفترض اولا ، الاسراع في تشريح الخطة وتفصيلها الى مراحل تنفذ تباعا ، بما يمكن مؤسسة كهرباء لبنان من الحصول خلال سنتين نصف و ثلاث سنوات لا اكثر ، على اول دفعة من الانتاج الجديد.

هناك سبب آخر ملح يقتضي الاسراع في التخلص من ظاهرة المولدات الشاذة واصحابها، لان هؤلاء يستهلكون شبكة توزيع الدولة ، ويحملونها فوق طاقتها ، فتتكاثر الاعطال ، عدا عن التلاعب والسرقة المكشوفة لتيار وبيعه على انه من كهرباء المولدات. هذه الظاهرة باتت آفة سرطانية حقيقية ينبغي استئصالها في اسرع وقت.

السرقة والجباية

الكلام عن سرقة اصحاب المولدات لتيار الدولة والهيمنة على شبكة التوزيع يفتح الحديث عن الهدر بشكل عام ، والهدر غير الفني بشكل خاص ، وبالتالي ضرورة مكافحته وتحسين الجباية ، خصوصا اذا تم رفع تعرفة التيار الكهرباء بنسبة اربعين في المئة ، بحيث سيدفع الشرفاء في السنوات المقبلة المزيد من المال لتغذية خزينة يستنزفها لصوص التيار الكهربائي، اذا لم تعالج هذه المشكلة جذريا .

خلال مناقشة الخطة الجديدة لم يتم التطرق اعلاميا الى مشروع مقدمي الخدمات ، وخصوصا في مسار العدادات الذكية ، بوصفه الحل الناجع للهدر . فهذا المشروع هو جزء اساسي من ورقة سياسة قطاع الكهرباء للعام 2010 ، والتي تعتبر الخطة الجديدة امتدادا لها . وتعتبر وزراة الطاقة ان تمديد عقد الشركات الثلاث التي تتولى المشروع ، يجب ان يمر في مجلس الوزراء ، لتواكب تنفيذ الانطلاقة المتجددة للخط الحكومية.

غالبا ما وصم المشروع بالفشل ، وكيلت ضده الاتهامات والافتراءات ، بذريعة انه لم يحقق كل اهدافه ، وتحديدا تحويل شبكة التوزيع الى شبكة ذكية ، وهذا صحيح جزئيا ، ولكنه في هذا لا يختلف عن مشاريع اخرى حالت التجاذبات السياسية دون انجازها ، وخير مثال ، معمل دير عمار2 السالف الذكر ، والذي لا يمت بصلة الى شركات مقدمي الخدمات.

اما في النتائج التي حققها المشروع في زيادة الجباية ، وتحسين الشبكة ، وتسريع اعمال الصيانة والتصلحيات ، فالاجدى الاستماع الى اصحاب الشأن ، لان اهل مكة ادرى بشعابها.

يورد وزير الطاقة سيزار ابي خليل مثالا على نجاح مشروع مقدمي الخدمات في احدى مناطق لبنان الثلاث (جبل لبنان الشمالي ومحافظة الشمال ) ، ويقدم هذا المثال على انه نموذج للشراكة الناجحة بين القطاعين العام والخاص .

يقول ابو خليل : خلال اربع سنوات زادت احدى الشركات مبالغ الجباية بقيمة 197 مليون دولار ، وقامت في الوقت عينه بمشاريع استثمارية لتحسين الشبكة ، ( تركيب وتشريك محطات جديدة ومد كابلات هوائية وجوفية وزرع اعمدة وايصال التيار الكهربائي الى انحاء كانت منسية من لبنان ) فزادت قيمة اصول كهرباء لبنان بقيمة 147 مليون دولار ، وكل ما تقاضته هذه الشركة لقاء اعمالها 210 ملايين دولار .

ويضيف ابي خليل : وعدنا اللبنانيين بان كلفة مشروع مقدمي الخدمات على الخزينة هي صفر ، فجاءت النتيجة افضل بكثير ، فقد مول المشروع نفسه بنفسه ، وفوق ذلك حقق ربحا كبيرا للدولة بزيادة اصولها الثابتة.

هذا النموذج يؤمل تعميمه على المناطق كافة ، والاهم ينبغي استكماله ، من خلال تحويل الشبكة الى ذكية ، اي بتركيب عدادات خاصة موصولة بغرفة التحكم المركزية، على المخارج لتحديد ما تحمله هذه الخطوط ، وما ينبغي توزيعه ، للموازنة بين الطلب والطاقة المتوفرة ، ولتحديد مكامن السرقة الكبيرة ، والتي يقوم بها خصوصا اصحاب المولدات ، لقمعها فورا ، ومن ثم تركيب العدادات الذكية في المساكن والمؤسسات لتأمين فوترة سليمة ودقيقة لا مجال للتلاعب فيها .

ان المضي بمشروع مقدمي الخدمات وتطويره وتسريع خطاه ، ضرورة قصوى يجب ان تواكب خطة زيادة الانتاج ، فبماذا ينفع زيادة 1500 ميغاوات على الشبكة اذا لم يعالج الهدر الفني وغير الفني نهائيا ، اللذان يطيحان بنصف هذه الكمية .

السياسة .. تابع

ما ان اعلن مجلس الوزراء عن اقرار خطة سيزار ابي خليل حتى ظهر التجاذب السياسي على تفسير ما تم حقيقة داخل الاجتماع .

هل تم اقرار الخطة مبدئيا على اساس العودة الى مناقشتها تفصيليا والتصويت على بنودها بندا بندا ؟ ام ان وزير الطاقة حصل على تفويض ببدء العمل ؟

هذا نقاش سفسطائي لا يقدم ، بل يؤخر ، ولعل هذا هو المقصود .

فاجراء المناقصات لبناء المعامل الجديدة او لاستئجار بواخر اضافية هو من اختصاص وزارة الطاقة ، ولكن التلزيم لا يمكن ان يتم الا بقرار من مجلس الوزراء . وبالتالي فان الكلام عن استفراد الوزارة بالقرار ، او التزوير المزعوم ، كلام باطل ولا محل له.

ثمة خشية حقيقية ، من وجود قطبة مخفية ، كالعادة ، بحيث يتم ربط موضوع الكهرباء بمواضيع خلافية أخرى ، استدراجا لمقايضات سياسية وغير سياسية . تماما كما حصل في نسف مشروع دير عمار2 او في محاولة اجهاض مشروع مقدمي الخدمات.

الواقع ان احد اهم تحديات العهد الجديد هو ازمة الكهرباء ، وهو ليس تحديا مستحيلا على الاطلاق ، بل على العكس ، انه ممكن جدا ، وسهل جدا تقنيا . والمطلوب تحصين الخطة الكهربائية سياسيا .. لا اكثر ولا أقل.