تستعد الحكومة لتخصيص جلسة من جلساتها قريبا لمناقشة أزمة الكهرباء لايجاد الحلول من خلال احياء ورقة سياسة قطاع الكهرباء التي أقرتها حكومة الرئيس نجيب ميقاتي العام 2010 ، او لاستنباط خطة جديدة ، تلحظ الخصخصة على سبيل المثال ، أو اي شكل من اشكال الشراكة مع القطاع الخاص.

لا شك ان النقاش سيكون حاميا ودسما لان جسم الكهرباء "لبيس" ، ومن المتوقع ان تشتعل داخل مجلس الوزراء حرب ارقام ، ومعركة حول تشخيص "الحالة" وتحمل المسؤوليات ، بالاضافة الى الكثير من التقديرات والتوقعات، بحيث يتداخل السياسي بالاقتصادي وبالتقني.

بطبيعة الحال ، ليس من المصلحة الوطنية زج الكهرباء في الاشتباك السياسي لانه سيعمق الشرخ بين الدولة والمواطن ، ويعمق فجوة اللاثقة الدولية بالمؤسسات اللبنانية ، سياسية واقتصادية ، علما ان الحكومة الحالية رفعت شعار استعادة الثقة.

انطلاقا من ذلك ينبغي على الوزراء وضع كل الافكار المسبقة جانبا ، واللجوء الى التقارير الدولية الحيادية التي وصفت بدقة واقع قطاع الكهرباء ، وليس عليهم الخجل عندما تفضح هذه التقارير بعض الجوانب المظلمة من اسباب ازمة الكهرباء ، وخصوصا عندما تتحدث عن علة الطائفية ووليدها نظام المحاصصة. بل ينبغي اتخاذ القرار الوطني التاريخي بابعاد مرفق الكهرباء عن كل التجاذبات ، ايا كان نوعها .

ضعف الاداء

البنك الدولي​ تناول في سلسة تقارير ( آخرها العام 2015 ) نشاط القطاعات الاقتصادية اللبنانية ، وخلص الى ان قطاع الكهرباء هو المثال الصارخ لقطاع ضعيف الأداء يؤثر سلباً على وضع الاقتصاد الكلي والنمو الاقتصادي والوضع المعيشي في لبنان. والاسباب الرئيسية ثلاثة :

أولاً، تتسبّب التحويلات المالية إلى ​مؤسسة كهرباء لبنان​، المرفق العام المتكامل عمودياً، بجزء مهم من الدين العام للبلاد ، يتراوح تقديره بين 40 و50% .

ثانياً، تشكل أزمة الكهرباء العائق الاول المقيّد لقدرة لبنان التنافسية وسهولة ممارسة الأعمال التجارية فيه.

ثالثاً، على الرغم من استعداد المستهلكين لدفع أكثر بكثير من أجل الحصول على خدمة كهرباء ذات نوعية جيدة، ولا يجدونها في المرفق العام ، فيلجأون الى المولدات الخاصة التي تُقدّر إيراداتها بنحو مليار وسبعمائة مليون دولار أميركي سنويا (أو 4 % من الناتج المحلي الإجمالي).

ويضاف الى ظاهرة المولدات الخاصة الشاذة ، حسب التقرير ، تفاوت طبقي حاد في سياسة توزيع التيار الكهربائي فالمناطق الفقيرة تشهد انقطاعاً في الكهرباء من 12 إلى 13 ساعة في اليوم، بينما يلحق المناطق الأغنى مثل بيروت 3 ساعات فقط من الانقطاع الكهربائي في اليوم.

الانقسام الطائفي

ويضع البنك الدولي الاصبع على الجرح اللبناني ، بالقول : ان الانقسامات السياسية والطائفية تحول دون تحقيق الإصلاحات الموضوعة على الطاولة لأكثر من 30 عاماً. وقد أدى ذلك إلى استمرار مؤسسة كهرباء لبنان في أدائها الضعيف مع ارتفاع في الخسائر غير التجارية وانخفاض في نسب الفوترة والتحصيل. ويرجع هذا جزئياً إلى عدم قدرة المؤسسة على استرداد التكاليف التي تتكبدها للانتاج والتوزيع نظراً لتجميد تعرفة الكهرباء لأكثر من 20 عاماً ، في وقت ترتفع هذه التكاليف باستمرار.

خسائر هائلة

يجزم التقرير ان الكهرباء تشكل لوحدها مصدراً رئيسياً لضعف الاقتصاد الكلي في البلاد نظراً للاستنزاف الكبير الذي سبّبته للمالية العامة طوال سنوات وما زالت تفرضه عليها حتى الآن. وبالرغم من ذلك، لم تتحقّق أية الإصلاحات بسبب طبيعة هذا القطاع السياسية والمذهبية.

ويعتبر إن تدخّل المالية العامة في مؤسسة كهرباء لبنان يشكّل نحو 40% من الدين العام للبنان، وهو في تزايد سريع لأن عمليات التحويل تناهز الآن أكثر من نصف العجز المالي في لبنان . ولقد بلغ متوسط التحويلات إلى مؤسسة كهرباء لبنان 2.3% من الناتج المحلي الإجمالي من عام 1992 إلى عام 2013. ومع ذلك، فقد ارتفعت هذه التكاليف باطراد مع مرور الوقت. ونتيجة لذلك، وصل متوسط التحويلات إلى مؤسسة كهرباء لبنان إلى 4.4% من الناتج المحلي الإجمالي في السنة، خلال الفترة الممتدة بين العام 2006 و2013، ما يمثل 55% من العجز المالي في البلاد خلال تلك السنوات. ومنذ العام 2012، فقد تجاوزت 2 مليار دولار أميركي في السنة. وبما أن التوازن المالي العام يعاني من العجز منذ العام 1992، سُدّدت التحويلات إلى مؤسسة كهرباء لبنان في الواقع من خلال الاقتراض. واستناداً إلى معدّل الفائدة الفعلي المتداول على الدين العام منذ العام 1992 من أجل تحديد قيمة تكلفة الاقتراض، نجد أن التكلفة التراكمية لحوالات مؤسسة كهرباء لبنان بين العام 1992 و 2013 هي 55.4 % من الناتج المحلي الإجمالي للعام 2013. وعلماً أن نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في لبنان تبلغ 143.1%، يمكن أن يعزى حوالى 40% من إجمالي الدين العام إلى مؤسسة كهرباء لبنان. وكان يمكن ان تكون هذه النسبة الناتج المحلي 87.8% بدلاً من 143.1 % لو لم تكن مؤسسة كهرباء لبنان تتكبد الخسائر الهائلة.

جذور المشكلة

هذا الواقع معروف منذ زمن طويل وقد شرحه تقرير قديم للبنك الدولي عام 1983 ،اي مع بدايات الازمة ولكن الحكومات المتعاقبة لم تجد الحلول الملائمة ، او عجزت عن تنفيذها . والمعروف ايضا ان الكهرباء كانت تربح قبل العام 1975 ، وحتى مع اندلاع الحرب الاهلية وحتى العام 1981 كان حساب مؤسسة الكهرباء لدى مصرف لبنان ايجابيا .

في تقرير العام 1983 قدر البنك الدولي ان 54 % فقط من الطاقة التي تولّدها مؤسسة كهرباء لبنان كانت تُفوتر إلى المستهلكين. ويزيد من الخسائر الدعم الحكومي للسعر الأساسي للنفط والغاز الذي دفعته مؤسسة كهرباء لبنان في العام 1982 . وقد اوصى منذ ذلك الوقت الحكومة بالإسراع في "معالجة الهدر الفني وغير الفني (السرقة) وتحسين الجباية .

اللامساواة

من جهة ثانية وسّع فشل قطاع الكهرباء عدم المساواة في البلاد (البنك الدولي، 2009). إذ ينشأ الحرمان والتفاوت من أسباب مختلفة: (أ) يجري دعم المستهلكين الذين لا يدفعون فواتير الكهرباء، بشكل مشترك من قبل المكلّفين بالضرائب وزبائن مؤسسة كهرباء لبنان الذين يدفعون فواتيرهم؛ (ب) يتكبّد المستهلكون الذين يعانون من انقطاع الكهرباء تكلفة عالية للبدائل (على سبيل المثال، مولد كهربائي خاص للأغنياء، والشموع للمستهلكين الأقل يسراً)؛ (ج) تقنين الكهرباء مجحف للغاية ويعمل لصالح الأغنياء. فالمناطق الفقيرة تنقطع فيها الكهرباء من 12 إلى 13 ساعة في اليوم، بينما تخضع المناطق الغنية مثل بيروت إلى 3 ساعات فقط من انقطاع الكهرباء في اليوم. وبالرغم من هذا العائق الرئيسي في الحياة اليومية والمعيشية، تفضّل الحكومة بذل جهودها من أجل تحقيق تساوي الفوائد التي تتلقاها كل طائفة، بدلاً من تقديم خدمات تقوم على الاحتياجات أو تصبّ في مصلحة الفقراء.

خسائر غير مباشرة

إن رداءة نوعية إمداد الكهرباء تُضرّ بالنشاط الاقتصادي. فالتنمية والاستثمار الفعال من حيث التكلفة في أنظمة الطاقة يرتبطان بشكل بيّن ومؤكّد بنمو الناتج المحلي الإجمالي. وعندما ينقطع التيار الكهربائي بشكل متكرر أو حين تكون تكلفة الكهرباء باهظة بشكل يمنع المواطنين من الحصول عليها، يميل النمو الاقتصادي إلى التباطؤ أو حتى إلى الانكماش. وبالإضافة إلى ذلك، تُعتبر الكهرباء بمثابة العائق الأكثر تقييداً لممارسة الأعمال التجارية في لبنان. ويحتلّ لبنان مرتبة ثاني أسوأ بلد في العالم من حيث نوعية إمداد الكهرباء في مؤشر القدرة التنافسية العالمي في المنتدى الاقتصادي العالمي للعام 2014/2015. وعلى نحو مماثل، تشير 55.1% من الشركات اللبنانية إلى الكهرباء باعتبارها عائق رئيسي أمام عملياتها التجارية وقدرتها التنافسية، وذلك وفقاً للدراسة الاستقصائية للمشاريع التي أجراها البنك الدولي للعام 2013/2014.

الطائفية مجددا ودائما

ويعود تقرير البنك الدولي ( للعام 2015 ) للتصويب على علة الطائفية:"اسباب رداءة نوعية الخدمة المقدمة في قطاع الكهرباء هي الفساد وسوء الإدارة، والنظام الطائفي حيث تعمل الكوادر الأساسية كلٍّ تحت حماية زعماء طوائفها".

ومن جهة ثانية يورد التقرير(2015) مثالا على طائفية الكهرباء ،ذ تم تحديد سبعة مواقع إنتاج للطاقة الحرارية في أوائل التسعينات لقطاع الكهرباء، ليس بس