عاد موضوع خصخصة قطاع الكهرباء الى الواجهة بقوة مع اقتراح رئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع المباشرة في اسرع وقت بتلزيم أنتاج الكهرباء الى القطاع الخاص ، وذلك لوضع حد نهائي لعجز الموازنة الضخم الذي يتسبب به هذا القطاع ، والذي يناهز ملياري دولار سنويا، عدا عن الخسائر غير المباشرة والتي كنا فصلناها في مقال سابق على موقع الاقتصاد بعنوان "قطاع الكهرباء محرقة المال العام .

فأزمة الكهرباء هي أزمة وطنية ترهق خزينة الدولة، حيث إن تغطية العجز المتراكم على مؤسسة ​كهرباء لبنان​ بات يشكِّل 42% من مجمل الدين العام . أضف إلى ذلك أن تداعيات سوء التغذية بالكهرباء تعيق نمو الناتج المحلي بما يزيد عن 2% في السنة، كما تلوّث البيئة وتسيء إلى سمعة هذا البلد. فقد تبوّأ لبنان المرتبة الأخيرة من بين 148 دولة مصنّفة على أساس كفاءة قطاع التغذية بالتيار الكهربائي، وفقا لتقرير البنك الدولي الاخير.

لم تتضح بعد كل تفاصيل اقتراح القوات اللبنانية ، الا ان فكرته الاساسية تقوم على تطبيق القانون 288 الصادر في نيسان 2014 الذي نصَّ على ان "تُضافُ الى المادة السابعةِ من القانون 462 تاريخ 2/9/2002 (تنظيم قطاع الكهرباء)، الفقرة الآتية: بصورة موقتة ولمدة سنتين، ولحين تعيين أعضاء الهيئة (الناظمة) واضطلاعها بمهمتها، تمنحُ أذونات وتراخيصُ الانتاج بقرار من مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزيري الطاقة والمياه والمالية".

وهذا يعني أن القانون 288، سمح للقطاع الخاص بانتاج الطاقة على أمل تحسين وضع التغذية. إلا أنه بسبب الأوضاع المتشنجة التي مرت بها البلاد خلال السنوات الماضية يتم استغلال هذا القانون لتحسين وضع الكهرباء.

إلا أن القانون 288، ليس كافيا بذاته فهو لا يشير الى كيفية اعطاء التراخيص وعلى أي أساس، وأين ينشأ المعمل أو المعامل ، فضلاً عن آليات المراقبة والمحاسبة وغيرها. وهذا ما يجب أن تبلوره وزارة الطاقة في المرحلة المقبلة. فهذا القانون، وبحسب العارفين، له مثيل في بلدان عدة ومنها فرنسا التي أعطت الحق لبعض الأشخاص بإنتاج التيار الكهربائي الى جانب المؤسسة الفرنسية EDF التي تتمع، كما مؤسسة كهرباء لبنان، بوضع احتكاري في إنتاج الكهرباء. ويعرف هؤلاء الأشخاص بـالمنتجين المستقلين (Producteurs autonomies )، ولكن وفق ضوابط محددة وصارمة .

كما أن مستلزمات القانون تحتاج الى آليات سواء لجهة وضع ألية مراقبة للعقود، أو لجهة انشاء هيئة ناظمة كما ينص على ذلك صراحة القانون الاساسي والمذكور اعلاه اي القانون 462 (ايلول 2002 )، وكرره القانون181(تشرين الاول 2011 ) .

اذا لا يمكن البدء بتطبيق القانون 288 وتسهيل دخول القطاع الخاص في عملية انتاج الكهرباء في الوقت الراهن ، ومن غير المجدي ربطه بالموازنة الجاري نقاشها الآن على طاولة مجلس الوزراء ، الا اذا ارتأت "القوات" الاشارة اليه فقط ، كخيار مستقبلي .

هذا من جهة ، ومن جهة ثانية فان مشكلة الخصخصة في لبنان تتجاوز مسألة القوانين الصادرة ، أو الخطط الموضوعة لقطاع الكهرباء. فالمسألة لسيت اقتصادية بحتة ، والخصخصة بشكل عام ، وفي قطاع الكهرباء بشكل خاص،تتطلب توافقا وطنيا لاسباب عدة .

يقول الدكتور نزار يونس في كتابه "جمهوريتي " الصادر عن دار سائر المشرق عام 2016 :

"إذا كانت المنافع الاقتصادية للخصخصة أمرًا مسلمًا به، فإن خطورتها السياسية أمر لا نقاش فيه، خاصة في دولة صغيرة كلبنان؛ إذ يعني انتقال ملكية المؤسسات العامة (كهرباء، ماء، اتصالات، نقل، مطارات ومرافىء الى ما هنالك) إلى أية جهة، الإتاحة لها امتلاك إمكانات كبيرة في أي مواجهة أو تناقض في المصالح مع الدولة. فتنازُل دولة صغيرة هشّة البنيان عن حضورها في أي حقل يؤدي إلى تفريط إضافي بسلطة هذه الدولة لمصلحة هيمنة القوى المالية عليها وعلى قرارها والإمعان بتهميش الشأن العام.

لذلك، نعتبر أن الخصخصة لا تجوز من دون ضوابط دقيقة تحول دون تحويل المؤسسات العامة إلى ملكية فردية أو شركة أو مجموعة شركات. ومن غير المفيد إجراء الخصخصة في مثل هذه الأوضاع المنهارة للمؤسسات العامة، نظرًا لقيمتها المتدنية الناجمة عن سوء إدارتها وخسائرها المتراكمة، ما يستوجب في هذه الحالة ايلاء إدارة المرافق المقرر تخصيصها إلى شركات تمتلك الكفاءة، لتشغيل المرفق العام وتأمين ربحيته".

هذا الكلام عن التحكم المالي لبعض الاشخاص او الشركات بقطاع حيوي مثل الكهرباء ، يضاف اليه الخشية من "فيدرالية كهربائية" ، بحيث يصبح لكل منطقة معملها الخاص ، فتتماهى مع شبه "الفيدرالية الامنية" القائمة في لبنان ، وتتناغم مع شبه "اللامركزية السياسية" الواقعة حاليا ، فتكتمل "الحالة التقسيمية" غير المعلنة ، وخصوصا اذا جرت الانتخابات النيابية المقبلة على قاعدة المحاصصة والفرز الطائفيين .

بطبيعة الحال فان اقتراح " القوات" ، الشريكة الاساسية في العهد الحالي، لا يرمي الى هذا التقسيم ، ولكن محاولة اقامة نوع من "الفيدرالية الكهربائية" ، تجري منذ سنوات ، عندما كانت "القوات" في المعارضة ، فكانت بعض القوى السياسية تشترط اقامة معمل كهرباء في مناطقها من المال العام ، وليس من القطاع الخاص ، مقابل الموافقة داخل الحكومة على اقامة معمل في منطقة أخرى.

ولعل تجربة معمل دير عمار 2 المجمد منذ اربع سنوات ، بسبب التجاذب السياسي الطائفي ، هي خير دليل على ذلك .

ومن ناحية اقتصادية ربحية صرفة ، ثمة سؤال آخر لا بد من الاجابة عنه ، هل يعني اطلاق حرية انتاج الكهرباء يعني استغناء عن مؤسسة كهرباء لبنان ومعاملها . واذا كان الجواب هو لا ، فما هي ضوابط العلاقة بين القطاعين العام والخاص ، وما هو دور كل منهما ؟

اذا اردنا خصخصة مؤسسة كهرباء لبنان بالكامل فثمة مشكلة أخرى اشار اليها الدكتور يونس، وهي تخص بيع المرافق العامة المفلسة ، مثل الكهرباء ، والذي لن يؤدي الغرض منه بتأمين مداخيل وفيرة للخزينة ، ويجب العمل اولا على تأهيل المرافق المقرر بيعها ، وذلك عبر خصخصة ادارتها مثلا ، كي تتمكن النهوض بها . وللدولة تجربتان ناجحتان في هذا المجال ، فالقطاع الخاص هو الذي يدير قطاع الخليوي المربح جدا ، وهو الذي يدير قطاع التوزيع والجباية في كهرباء لبنان ، والذي شهد تحسنا ملحوظا في السنوات الاربع الماضية.

خصخصة الكهرباء او اي مرفق عام مطروحة للنقاش ، ومن حق القوى السياسية ، داخل الحكم أو خارجه ، المساهمة فيه . ولكن بالنسبة لقطاع الكهرباء ، ثمة عمل قائم من شأنه انقاذ هذا القطاع من الافلاس ، ويتمثل بتطبيق سياسة ورقة قطاع الكهرباء التي أقرتها الحكومة عام 2011 ، ونتج عنها القانون 181 في العام نفسه، وتعثر تطبيقه لاسباب غير اقتصادية ، وينبغي اعطاء الفرصة للعهد الجديد ، وهو عهد شراكة وطنية حقيقية ، لازالة العراقيل ، والعمل من أجل تطبيقه كاملا ، قبل البحث عن خطط ومشاريع اخرى.