انه عصر الاحجام الكبيرة، زمن زوال المؤسسات والقطاعات الصغيرة لصالح بقاء الكبيرة بعد ارتفاع حدة المتطلبات للصمود والبقاء تحت وطأة الانكماش الاقتصادي العالمي وتراجع كل المؤشرات الاقتصادية.

وكما في التجارة والمال والتأمين والصحة والسياحة ، هكذا هو الحال في قطاع النقل البحري الذي بدأ يشهد تغيّرات اسفرت عن خروج عدد من شركات الملاحة نهائياً ودحولها في شراكات مع أخرى اوسع نشاطاً وقدرة على تأمين الاستمرارية التي تتطلب شروطاً اضافية ليست بمتناول كل الشركات العاملة بما يمنحها الصمود في مواجهة المنافسة الشديدة بعد تسجيل خسائر كبرى.

ما هي التغّيرات التي يشهدها قطاع النقل البحري ؟ وما هي ارتداداتها على صعيد التجارة البحرية والاقتصاد ككل؟

كشف رئيس الغرفة الدولية للملاحة في بيروت والنائب الاول لرئيس الاتحاد العربي لغرف الملاحة البحرية ايلي زخور أن قطاع النقل البحري في العالم شهد خلال السنوات الماضية توقيع المزيد من اتفاقيات التحالف (Alliance) والاندماج والاستحواذ بين شركات الملاحة العالمية، وذلك للحد من الخسائر الفادحة التي تتكبدها، نتيجة للمنافسة الشرسة وسياسة المضاربة بأجور النقل، في ظل فقدان التوازن بين العرض والطلب والفائض الكبير بسعة الاسطول التجاري العالمي وتراجع حركة التجارة البحرية العالمية.

وقد تجاوزت خسائر شركات الملاحة العالمية الـ18 مليار دولار في العام 2016.وأوضح زخور "للاقتصاد" أن هذه الخسائر القياسية أطلقت صفارة الانذار في قطاع النقل البحري، بعد أن بدأت خطوط بحرية عدة تطالب المصارف بمزيد من القروض والتسهيلات،والدائنين بإعادة جدولة الديون المتوجبة عليها، لكي تتمكن من تغطية تكلفة استئجار بعض بواخرها ومصاريفها العامة من جهة، وتوفير السيولة في صناديقها من جهة أخرى. ويقول : أن آخر ضحية تلك الخسائر حتى تاريخه هي شركة الملاحة الكورية الجنوبية “Hanjin Shipping” التي أعلنت إفلاسها بسبب عدم تمكنها من الحصول على المزيد من القروض لتسديد الالتزامات المالية المستحقة عليها، علما أنها كانت تحتل في منتصف العام 2016، المرتبة السابعة في العالم بأسطول تبلغ سعته الاجمالية أكثر من 750 ألف حاوية نمطية.

ولفت الى أن هناك أكثر من شركة ملاحة عالمية على حافة الإفلاس في حال لم تمنح التسهيلات والقروض المطلوبة لكي تتمكن من الاستمرار في أعمالها وابعاد مخاطر العسر المالي عنها، وامتلاك القدرة على مواجهة الالتزامات المالية في مواعيدها.

خطوة استباقية

ويكشف زخور انه وكخطوة استباقية ولتجنب الوقوع في المحظور، وقعت عدة شركات ملاحة اتفاقيات لإقامة تحالفات (Alliances) في ما بينها، أو الاندماج بين بعضها البعض، أو الاستحواذ البعض على البعض الآخر، لعل هذه الخيارات ربما تكون سبيل النجاة الوحيد المتاح أمام شركات الملاحة المتعثرة ماليا، ولكي تملك القدرة على الاستمرار في خدماتها، ومواجهة الواقع المأساوي لقطاع النقل البحري، والتخفيف من المصاريف، وزيادة القدرات المالية والتنافسية وإمكانية الحصول على المزيد من القروض والتمويل بشروط مؤاتية. علماأن أحد هذه الخيارات يمكن أن يعتبر أيضا الحل المثالي لشركات الملاحة المتعثرة والمهددة بالإفلاس. ولا بد من التوضيح أن هناك فرقا كبيرا بين الاندماج والاستحواذ والتحالفات.

وشرح زخور الاندماج الذي يمكن أن يحصل بين شركات متوسطة الحجم وأخرى صغيرة لتكوين كيانات ملاحية جديدة أكبر حجما على الصعيدين المالي والعملي، ما يمكنها من المنافسة وتحقيق الأهداف التي لا يمكن لشركة بمفردها تحقيقها.

وأشار الى أن قطاع النقل البحري في العالم شهد في العام 2016، عملية اندماج شركة الملاحة العربية المتحدة (UASC) مع شركة الملاحة الالمانية (Hapag Lloyd). وبموجب هذا الاندماج ستنشأ شركة ملاحة جديدة تحمل اسم الشركة الالمانية ذاته (Hapag Lloyd) على أن تكون حصةمساهمي (UASC) 27 بالمئة في الشركة الجديدة، و 73 بالمئة الباقية حصةمساهمي(Hapag Lloyd) الحالية.و(Hapag Lloyd) تحتل المرتبة السادسة في العالم بأسطول تبلغ سعته 979 ألف حاوية نمطية، في حين تحتل (UASC) المرتبة العاشرة بأسطول تبلغ سعته 520 ألف حاوية نمطية، وأن هذا الاندماج ينتظر الحصول على موافقات الهيئات البحرية الدولية المعنية ليصبح ساري المفعول ولتتمكن الشركة الجديدة المنبثقة عنه تقديم خدماتها البحرية الموحدة.ولفت الى أن (Hapag Lloyd) الجديدة المنبثقة عن هذا الاندماج ستتقدم من المرتبة السادسة الى الخامسة في العالم بأسطول تبلغ سعته 1.500 مليون حاوية نمطية، أي ما نسبته 7.27 بالمئة من سعة الاسطول التجاري العالمي.

اما الاستحواذ فهو قيام شركة ملاحة كبرى على شراء شركة بحرية أصغر حجما منها، وبالتالي تصبح هي المالكة الوحيدة والمسيطرة ماليا وإداريا على الشركة، والمهيمنة على مجلس ادارتها، بعد أن يكون مالكو الشركة المباعة استوفوا ثمن الحصص أو الاسهم التي يملكونها.

أن آخر عملية استحواذ حصلت في العام الماضي وهي شراء مجموعة (Maersk) الدانمركية العملاقة لشركة الملاحة الالمانية (Hamburg Sud) الاصغر حجما منها مقابل 4 مليارات دولار، علما أن (Maersk) تحتل المرتبة الاولى في العالم بأسطول تبلغ سعته 3.249 ملايين حاوية نمطية، في حين تحتل (Hamburg Sud) المرتبة السابعة بأسطول تبلغ سعته 592 ألف حاوية نمطية، ومن المتوقع أن تصبح عملية الاستحواذ هذه سارية المفعول في مطلع العام 2018، وبعد أن تكون حصلت على موافقات الهيئات البحرية الدولية المعنية.

وفي ما خص Shipping Alliance أوضح زخور أن التحالفات في قطاع النقل البحري (Shipping Alliances) تتمثل بتوقيع شركات بحرية على اتفاقيات تعاون فيما بينها بهدف التوسع في خطوطها وزيادة القدرة الاستيعابية لخدماتها وتبادل المساحات المخصصة للحاويات وتأجير مساحات الحاويات بين الاطراف الموقعة على هذه الاتفاقيات، ما يؤدي الى تعزيز خدمات شركات هذا التحالف وتقوية مواقعها على خطوط المنافسة والى حمايتها من إشهار إفلاسها في ظل استمرار تراجع أجور النقل البحري. واضاف: شهدنا في السنوات الماضية قيام تحالفات بحرية عدة كان آخرها التحالف البحري الذي أطلق عليه (Ocean Alliance) الذي ضم 4 شركات ملاحة بحرية كبيرة هي: (CMA CGM) الفرنسية التي تحتل المرتبة الثالثة في العالم بأسطول أصبحت سعته 2.173 مليون حاوية نمطية بعد استحواذها على شركة (NOL) السنغابورية، و (Cosco/CSCL) الصينية التي تحتل المرتبة الرابعة بأسطول تبلغ سعته 1.638 مليون حاوية نمطية، و (Evergreen) التايوانية التي تحتل المرتبة الخامسة بأسطول تبلغ سعته 990 ألف حاوية نمطية، و (Orient Overseas Container Line (OOCL)) هونغ كونغ التي تحتل المرتبة التاسعة بأسطول تبلغ سعته 555 ألف حاوية نمطية. وسيؤمن هذا التحالف 40 خطا بحريا مشتركا من معظم المرافئ العالمية بأسطول تبلغ سعته الاجمالية 5.355 ملايين حاوية نمطية أي ما نسبته حوالي 26 بالمئة من السعة الاجمالية للاسطول التجاري العالمي. وكان تحالف بحري عملاق آخر أطلق عليه اسم (2 M) بدأ بتقديم خدماته المشتركة في مطلع العام 2015، ويضم كل من (Maersk) الدانمركية التي تحتل المرتبة الاولى بأسطول ستصبح سعته 3.841 بعد إتمام عملية استحواذها على (Hamburg Sud)، و (MSC) السويسرية التي تحتل المرتبة الثانية بأسطول تبلغ سعته 2.937 مليون حاوية نمطية. ويؤمن هذا التحالف خدماته البحرية المشتركة من معظم المرافئ العالمية بأسطول تبلغ سعته الاجمالية 6.186 مليون حاوية نمطية أي ما نسبته حوالي 30 بالمئة من السعة الاجمالية للاسطول التجاري العالمي.

اما ما هي تداعيات الاندماج والاستحواذ؟

يوضح زخور أن من سلبيات عمليات الاندماج والاستحواذ تشجيع الاحتكار في قطاع النقل البحري، والقضاء على المنافسة والاستغناء عن القسم الاكبر من الموظفين الذين يعملون في شركات الملاحة التي تم استحواذها أو دمجها، ما يؤدي الى رفع معدل البطالة في قطاع النقل البحري.فقد سمعنا فور انتشار خبر استحواذ (Maersk) على (Hamburg Sud) بقيام موظفي هذه الاخيرة بمظاهرة ضد هذا الاستحواذ، وذلك خوفا من تسريح جماعي لموظفي (Hamburg Sud) البالغ عددهم 5360 موظف في المانيا وخارجها.

كما أن هذه العمليات تؤثر سلبا على نشاط الوكالات البحرية الممثلة لشركات الملاحة التي تم دمجها أو استحواذها. فالمساهمون الذين يملكون الاكثرية ويسيطرون على مجالس ادارة شركات الملاحة "الجديدة" يفضلون الاستمرار بالتعاون مع الوكالات البحرية التي تمثل شركاتهم البحرية، وبالتالي الاستغناء عن خدمات الوكالات البحرية التي تمثل شركات الملاحة المدمجة أو المستحوذة. علما أن أكثر من 90 بالمئة من شركات الملاحة العالمية أصبحت مالكة أو شريكة رئيسية في الوكالات البحرية التي تمثلها في معظم المرافئ العالمية.

استمرار تراجع عدد شركات الملاحة الصغيرة والمتوسطة الحجم

وخلص زخور مشيرا الى أن عدد شركات الملاحة الصغيرة والمتوسطة الحجم في العالم مستمر في الانخفاض، نظرا لعدم قدرتها على منافسة الشركات العملاقة أو المنضوية في تحالفات بحرية. فهي ستضطر عاجلا أو آجلا اللجوء الى عملية اندماج أو استحواذ مع شركة ملاحة أكبر حجما منها، أو الانضمام الى أحد التحالفات البحرية لكي تتمكن من المحافظة على الاستمرارية في خدماتها، وإلا سيكون مصيرها مهددا بالزوال والخروج من قطاع النقل البحري العالمي بصورة نهائية.

اما بعد فلا بد من الاعتراف ان عالم البحار شاسع ولا عجب اذا كانت " السمكة الكبيرة تأكل السمكة الصغيرة" ، فهو ليس بعيداً عما يدور على اليابسة من انقلابات وتغيّرات تهز الكيانات.