هذا المقال هو جزء من سلسلة مقالات خاصة بموقع الاقتصاد تهدف إلى طرح سياسة إقتصادية شاملة تسمح بتنفيذ الوعود التي أعطتها الحكومة في بيانها الوزاري. وإليكم الجزء الرابع والأخير.

في الجزء الأول عالجنا مسألة طبيعة الاقتصاد اللبناني، وطرحنا في الجزء الثاني السياسة الهيكلية الواجب إتباعها من قبل الحكومة اللبنانية. أمّا الجزء الثالث فقدّ إقترح سياسة الظرفية للحكومة تسمح لها بالخروج من الأزمة الإقتصادية. في هذا الجزء سنطرح خطّة تهدف إلى زيادة الإيرادات وتخفيف الإنفاق بهدف الوصول إلى توازن مالي.

أظهرنا في الجزء الأول أن المالية تُعاني من عجز بلغ 3952 مليون دولار أميركي في العام 2015 و2528 مليون دولار في الأشهر الثمانية الأولى من العام 2016 (بزيادة 27 عن نفس الفترة من العام 2015). هذا العجز هو عجز مُزمنحيث تُشير الأرقام إلى أنه ومنذ سبعينات القرن الماضي والميزانية العامّة تُسجّل عجزًا بدأ بأخذ أبعاد مُخيفة منذ مطلع هذا القرن وإزدادت حدّته في الفترة من العام 2005 إلى وقتنا الحاضر.

لا يتشارك الإقتصاديون نفس الرؤية للعجز، ففحين يراه الكينزيون على أنه عامل مُساعد في تحفيز النمو، يجدّ الليبراليون أن الدين الناتج عن العجز مُخيف وبالتالي فهو غير مقبول.

في النظرية الإقتصادية، لا يتمّ قياس السياسة المالية للدوّلة بتوازن الميزانية العامة. فهذه السياسة تتأثر بعاملين: (1) سياسة الديون للسنين الماضية مما ينعكس في خدمة الدين العام، و (2) وضع الإقتصاد الحالي في الدورة الإقتصادية والذي يخلق عجز نتيجة إنخفاض الواردات.

وقد تنتج الزيادة في عجز الموازنة من تدهور في الوضع الإقتصادي الدوري بمعزل عن الخيارات الهيكلية في الميزانية (معدل الضرائب، ومستوى الإنفاق). وهنا يُطّرح السؤال عن مدى الإنضباط في المالية العامّة للدوّلة؟

في الواقع يتمّ تحليل الانضباط في المالية العامة عبر القيود على ميزانية الدولة التي تنص على أن يتم تمويل النفقات الإجمالية في الميزانية لكل سنة مالية من مصدرين: الضرائب، والإصدارات من سندات خزينة.

ويُمكن وضع هذه القيود ضمن المعادلة الحسابية التالية:

الإصدارات الجديدة (أو زيادة الدين العام) + الإيرادات الضريبية = خدمة الدين العام + الإنفاق العام

وهذه العلاقة تُظهر أن نسبة الدين العام تزيد لأن الدولة تُسَجِّلُ عجزاً أولياً، أو أن الفجوة بين سعر الفائدة الحقيقي ومعدل النمو يزيد.وبالتالي يُعتبر أن هناك إنضباط مالي في حال كان الميزان الأوّلي يُسجّل فائضًا يفوق خدمة الدين العامّ.

وتطبيق هذه المُلاحظة على حال المالية العامّة في لبنان يُظهرّ أن لبنان يُسجّل فجوة تزيد يوماً بعد يوم بين سعر الفائدة الحقيقي ومعدل النمو. كما أن الميزان الأوّلي هو في أقل بشكل دائم من قيمة خدمة الدين العام وبالتالي فإن العجز هو أمر شبه أكيد حيث وبحساباتنا سيكون هناك عجز في العام 2017 بقيمة 7 مليار دولار أميركي.

هذا العجز ستعمد الحكومة اللبنانية الى تمويله من خلال زيادة الضرائب (مشروع موازنة العام 2017) ومن خلال إصدار سندات خزينة.

بالطبع لسنا مع أي من الإجراءات السابقة الذكر لأن زيادة الضرائب تعني ضرب للماكينة الإقتصادية في وقت هي بأشدّ الحاجة إلى تحفيزات وإصدار سندات خزينة سيؤدّي إلى زيادة الدين العام.

من هذا المُنطلق نرى أن هناك بعض الإجراءات التي يتوجّب على الحكومة إتّخاذها إن من ناحية رفع الإيرادات أو من ناحية لجم الإنفاق:

على صعيد الإيرادات:

يتوجب على الحكومة البحث عن مصادر تمويل لا تكون على النشاط الإقتصادي وعلى رأسها:مُكافحة التهرّب الضريبي الذي يجلب واردات بنسبة إلى 10 من الناتج المحلّي الإجمالي، وبالتالي يتوجّب رفع السرية المصرفية لصالح مُديرية تحصيل الضرائب في وزارة المال (تعديل القانون)؛ تفعيل جباية الرسوم والفواتير المُستحقّة للدولة على المواطنين والتي تبلغ قيمتها بحدود 4.5 مليار دولار أميركي؛ الإستفادة من مُمتلكات الدولة اللبنانية من خلال تأجير مع هو شاغر أو نقل الوزارات والمديريات المُستأجرة إلى هذه العقارات؛ فرض غرامات على المُمتلكات البحرية النهرية المُحتلّة والتي تُعطي مدخول لا يقلّ عن 3 مليار دولار أميركي سنويًا؛ رفع مُتوسط تعرفة الكهرباء تدريجيًا لكي يتمّ سدّ الكلفة؛ ملاحقة الفساد في الوزارات والمؤسسات العامّة والمرافق العامّة التي تحرم الخزينة من أموال طائلة!

على صعيد الإنفاق:

هل يُعقل أننا ونحن في حال عجز مالي أن نستمر بالإنفاق أكثر مما كنّا نُنّفق في أعوام المجدّ (2007-2010)؟ ألا يعمد الإنسان العادي إلى التقشّف في حال خفّت موارده؟ من هذا المُنطلق، يتوجب على الحكومة وقف التوظيف العشوائي في القطاع العام والطلب الصارم إلى كل الوزارات والمؤسسات العامّة تحديد ملاكاتها كما والشغور لكي يتمّ إعتماد إستراتيجية عقلانية في التوظيف. فمعرفة أن كتلة أجور القطاع العام تُشكّل نصف مدخول الدولة وحده كفيل بالقول أن سياسة التوظيف هي سياسة إنتخابية وشعبوية. أيضًا يتوجب ملاحقة الهدر في مختلف إدارات الدوّلة لأن هذا الأمر يُشكّل إنفاقًا لا جدوى منه مثل نفقات السفر التي هي بحدّ ذاتها فضيحة كبيرة!

بالطبع هذه الإجراءات تهدف إلى تحسين مؤقّت لإيرادات الدوّلة، وتُقلّل من الإنفاق الجاري غير المُجدّي. وبالتالي، فإن الإصلاحات الهيكلية هي الوحيدة الكفيلة بإعادة توازن المالية العامّة وإعادة نمو الإقتصاد وبالتالي التنمية الإقتصادية والإجتماعية.