هذا المقال هو جزء من سلسلة مقالات خاصة بموقع الاقتصاد تهدف إلى طرح سياسة إقتصادية شاملة تسمح بتنفيذ الوعود التي أعطتها الحكومة في بيانها الوزاري. وإليكم الجزء الثالث.

في الجزء الأول عالجنا مسألة طبيعة الاقتصاد اللبناني، وطرحنا في الجزء الثاني السياسة الهيكلية الواجب إتباعها من قبل الحكومة اللبنانية. في هذا المقال، سنتحدّث عن السياسة الظرفية للحكومة (Conjoncturelle) الواجب إتبّاعها بهدف الخروج من الأزمة الإقتصادية والمالية الحالية.

الاقتصاد هو عبارة عن مجموعة العمليات التجارية التي تتمّ بين لاعبيّن إقتصادييّن: الشركات والأسر. وينحصر دور الدولة في تنظيم، تشريع ومراقبة هذه العمليات طبقًا لمبدأ الاقتصاد الحرّ. وإذا كانت الإقتصادات تطوّرت مع الوقت، فقد تطوّر معها دور الدولة ليُصبح في بعض الأحيان مُنتج ومُستهلك لبعض السلع والخدمات. هذا الواقع يُعقّد عمل الماكينة الإقتصادية التي تتأثر بشكل كبير بالأداء السيء للإدارات العامّة (في كل دول العالم) وخصوصًا الفساد والهدر. وعجز الموازنات يؤدّي بشكل ميكانيكي إلى زيادة الطلب على الأموال من قبل الدولة التي تعمدّ إلى زيادة طلب التمويل عبر الأسواق المالية أو المصارف وغالبًا ما يكون هذا الطلب من خلال سندات الخزينة. المُشكلة أن حجم هذه الأموال قد يصل إلى مُستويات يُحرم فيها القطاع الخاص من الأموال بهدف الإستثمار (بالدرجة الأولى) والإستهلاك بالدرجة الثانية.

الإستثمار والإستهلاك هما العامودين الأساسيين للإقتصاد الذي يتمّ قياسه من خلال ثلاثة مؤشرات هي: الناتج المحلّي الإجمالي، التضخم والبطالة. هذه المؤشرات تسمح بمعرفة الخللّ التي قد يطال الدورة الإقتصادية (باللون الأحمر على الصورة) وبالتالي، يتمّ وضع سياسة تُسمّى ظرفية لأن عمرها محدود في الوقت بهدف تصحيح الخللّ.

النمو الاقتصادي هو مؤشّر أساسي لأنه يسمح بقياس تطوّر الناتج المحلّي الإجمالي من عام إلى أخر وبالتالي يتوجبّ أن يكون هناك نموّ إقتصادي بنسبة 2 إلى 3% في الإقتصادات المُتطوّرة و5 إلى 12% في الإقتصادات في طورّ النموّ. هذه القاعدة هي قاعدة عملية وليست مبنية على نظرية إقتصادية. هذا النموّ يتأثر بالإستثمار، والإستهلاك كما والتصدير والإستيراد، وبالتالي فإن دعم هذه المكوّنات هو أساسي لدفع الاقتصاد.

البطالة هي مقياس لقدرة الماكينة الإقتصادية على توزيع الثروات على الشعب وبالتالي فإن نسبة عالية من البطالة لها تداعيات إجتماعية خطيرة وقد تكون مصدر ثورات سياسية وعسكرية في الدوّل. ومؤشّر البطالة في الإقتصادات المُتطوّرة يُعتبر من أهم المؤشرات حيث يتمّ إنتخاب النواب والرؤساء على أساس هذا المؤشّر (وعد بارك أوباما الإنتخابي في نهاية ولايته الأولى).

أمّا التضخم، فهو شبيه بحرارة الإنسان حيث أن تضخّم كبير يقتل الاقتصاد وتضخّم قليل يعني أن لا نمو في الاقتصاد. من هذا المُنطلق، نرى أن السياسات الظرفية تعتمدّ بنسبة كبيرة على التضخّم في دعم الاقتصاد من ناحية أن إستخدام الأموال لدعم الاقتصاد (الدائرة المالية باللون الأخضر على الصورة).

الأرقام عن الواقع الاقتصادي والمالي التي أوردناها في الجزء الأوّل، تُظهر بوضوح أن الماكينة الإقتصادية لا تنمو كما يجب أي أن ما ينتج عن الدائرة الإقتصادية هو نمو صفر بالمئة أو حتى سلبي. والنمو الذي يتمّ تسجيله سنويًا عائد بالدرجة الأولى إلى تحاويل المُغتربين التي تُشكّل أكّثر من 23% من الناتج المحلّي الإجمالي وما بين العامين 2015و2016 نمتّ هذه التحاويل بنسبة 1.5% أي أن نمو هذه التحاويل ساهم بـ 0.37% من مجمل نموّ الاقتصاد اللبناني. وهذا ما يُكّسب الاقتصاد اللبناني لقب الاقتصاد شبه الريّعي. أيضًا يُمكن ذكر العجز التجاري الهائل والذي يفوق الـ 15 مليار دولار أميركي سنويًا والذي يُسبب تداعيات على ميزان المدفوعات وبالتالي على التصنيف الإئتماني للبنان مما يزيد من كلفة الإقتراض.

أمّا ماليًا فنرى أن مُستوى الدين العام وخدمته كما والإنفاق المُفرطّ هي نقاط أصبح مُعالجتها الآنية أساس وذلك تفاديًا لأي تعثّر في دفع المُستحقّات. وهنا تبرز مُشكلة تأمين إيرادات إضافية ومعها معضلة الإنفاق المُتزايد في ظل سياسة توظيفية عشوائية في القطاع العام.

الإقتراح التالي يفرض تنفيذ السياسة الهيكلية التي طرحناها بالتوازي مع تنفيذ هذا الطرح لأن هدف هذا الأخير يبقى تفادي التعثّر المالي وتحفيز الماكينة الإقتصادية لتُصبح قادرة على خلقّ نموّ مقبول. من هذا المُنطلق، نقترح إتّباع سياسة نيكولا كالدور المعروفة بالمربّع السحري والتي تنصّ على خفض البطالة، لجمّ التضخّم، تحفيز النموّ ومعالجة مُشكلة عجز الميزان التجاري.

هناك سببان للبطالة في لبنان: المُشكلة الهيكلية في الماكينة الإقتصادية والتي تعجزّ عن إستيعاب اليدّ العاملة ذات الكفاءات العالية، ومُشكلة المضاربة الأجنبية لليدّ العاملة اللبنانية. وبالتالي فإن عمل الحكومة على تغيير هيكلية الاقتصاد يدّخل في إطار السياسة الهيكلية التي تحدّثنا عنها في الجزء الثاني والتي تنصّ على دراسة القطاعات ودعم المشاريع التي تحملّ قيمة مُضافة تسمح بتكبير حجم الاقتصاد اللبناني (نوعًا وكمًا). ويأتي تحفيز الإستثمارات في نطاق السياسة الظرفية مما يعني أنه يتوجّب على الحكومة القيام بإقرار مشاريع قوانين لجذب الإستثمارات وعلى رأسها السياسة الضريبية. كما أن العملّ على جذب إستثمارات من المُغتربين اللبنانيين يحتاج إلى إعادة ثقة هؤلاء بالدوّلة اللبنانية وذلك من خلال فرض دولة قانون تُسيّرها الديموقراطية وخالية من الفساد.

أيضًا لخصخصة بورصة بيروت دور كبير في دعم القطاعات الناشئة وذلك من خلال جذب رؤوس الأموال التي يستثمرها اللبنانيين المُقيمين في بورصات العالم والتي تصل إلى أرقام خيالية. هذا يفرض على الحكومة تسريع إقرار مشروع الخصخصة.

أمّا مضاربة اليد العاملة الأجنبية لليدّ العاملة اللبنانية، فهي تفرض على الحكومة التشدّد في تطبيق القوانين المرعية الإجراء وإلغاء الزبائنية السياسية التي تسمح لبعض القطاعات بإستخدام اليدّ العاملة الأجنبية بشكل حصري مثل قطاع البناء والمصانع والمطاعم والفنادق... بالطبع قد يكون للكوتا بحسب القطاع دور أساسي في عدم ضرب بعض القطاعات التي لا تجدّ يدّ عاملة لبنانية.

زيادة الإستثمارات تؤدّي إلى رفع الناتج المحلّي الإجمالي وهذا الأمر هو نتيجة حسابية بحكم أن هذا الأخير يساوي مجموع الإستثمار والإستهلاك والتصدير ناقص الإستيراد. وبالحديث عن التصدير والإستيراد، نرى أن الإستيراد المُفرط للبنان (أكثر من 17 مليار دولار أميركي مقارنة بـ 3 مليار دولار تصدير) يؤدّي إلى عجز كبير في الميزان التجاري. هذا الواقع التعيس يعكس ضعف الماكينة الإقتصادية والتي تحتاج إلى إستثمارات لكيّ يتمّ تلبية حاجة السوق الداخلي. وعلى هذا الصعيد، يُمكنّ للحكومة اللبنانية تحفيز تصنيع أول عشرين مُنتجّ يستوردها لبنان عبر سياسة ضريبية مؤاتية تشملّ الإستثمارات وتوظيف اللبنانيين حصريًا.

أمّا فيما يخص مُشكلة التضخم في لبنان فهي غير موجودة حاليًا بحكم أن الماكينة الإقتصادية لا تنمّو فعّليًا وبالتالي فإن السياسة النقدية على هذا الصعيد محصورة بدعم السياسة المالية للحكومة من خلال دعم القروض للقطاعات الواعدة بحجم وضمانات أكبر مما هي عليه اليوم.

في الختام لا يسعنا القول إلا أن كل ما تقدّم من طروحات لسياسات هيكلية وظرفية تبقى رهينة التوافق السياسي بحكم أن كل القرارات هي قرارات مركزية صادرة عن الحكومة وعن مجلس النواب ولبنان محكوم بالتوافق.

في الجزء الرابع سنقوم بطرح خطّة تهدف إلى زيادة الإيرادات وتخفيف الإنفاق بهدف الوصول إلى توازن مالي.