هذا المقال هو جزء من سلسلة مقالات خاصة بموقع الاقتصاد تهدف إلى طرح سياسة إقتصادية شاملة تسمح بتنفيذ الوعود التي أعطتها الحكومة في بيانها الوزاري. وإليكم الجزء الثاني.

فيالجزء الأولكنّا قد طرحنا فلسفة الاقتصاد الحرّ بحسب النظرية الإقتصادية وبحسب الدستور اللبناني وتوصلّنا إلى إستنتاج أساسي ألا وهو أن لبنان هو إقتصاد ليبيرالي مع تدخّل أكثر من ضروري للحكومة من خلال سياستها الإقتصادية التي تنقسمّ إلى شقّين: سياسة على الآمد البعيد (أو سياسة هيكلية) وسياسة على الآمد القصير (أو سياسة ظرفية). كما وإستنتجنا أن وضع خطّة إقتصادية يفرض معرفة الواقع الاقتصادي والإجتماعي الحالي الذي قمنا بوصفه بالأرقام في الجزء الأول.

في هذا المقال، سنتحدّث عن نوع السياسة الإقتصادية الواجب إتباعها، وسنبّدأ مع السياسة الهيكلية.

السياسة الهيكلية هي سياسة إقتصادية وإجتماعية هدفها العمل على العوامل الأساسية للماكينة الإقتصادية والحياة الاجتماعية. هذه الأمر يفرض أن يكون تأثير الإجراءات التي تتخذها الحكومة، على الآمد البعيد. فعلى سبيل المثال، تعتبر الإستثمارات في التربية من خلال خلق إختصاصات جديدة نوع من أنواع السياسة الهيكلية لأنها تُحسّن من عوامل الإنتاج وبالتالي تضمن تنافسية مُستدامة.

وهنا يُطرح السؤال عن نوع الإجراءات التي يتوجب على الحكومة أن تأخذها بعين الإعتبار؟ الجواب ليس فقط إقتصادي بل هو أيضًا إجتماعي.

المعروف من خلال هرم أبراهام ماسلو أن الإنسان يعمد إلى إكفاء حاجاته التي صنّفها ماسلو على شكل هرم من خمسة طبقات: الحاجات الفسيولوجية (طعام، ماء...)، حاجات الأمن (السلامة الجسدية، الأمن الوظيفي، الأمن الأسري والصحّي...)، الحاجات الاجتماعية (الصداقة، العلاقات الأسرية...)، الحاجة للتقدير (تقدير الذات، الثقة، الإنجازات...)، والحاجة لتحقيق الذات (الإبتكار، حلّ المشاكل...).

وكما يُمكن المُلاحظة، تحتاج هذه الحاجات إلى دعم إقتصادي لتلبيتها مما يفرض تقاطعًا بين الشقّ الاجتماعي والإقتصادي. إذًا ومن هذا المُنطلق، فإن أي سياسة هيكلية للحكومة يجب أن تأخذ بعين الإعتبار الشق الاجتماعي إضافة إلى الشقّ الاقتصادي.

إجتماعيًا يُعاني لبنان من لا عدالة إجتماعية كبيرة تتمثّل بتركيز كبير للثروات والنشاط الاقتصادي في بيروت وجبل لبنان. حيث من المُلاحظ من خلال المعلومات المُتوفّرة أن نسب الفقر في الأطراف أكبر بكثير منها في جبل لبنان مع 25% من الأسر في عكّار، الهرمل، وبنت جبيل يعيشون بأقلّ من 320 د.أ شهريًا. كما أن مؤشّر GINI يضع لبنان في المرتبة 15 عالميًا من ناحية اللاعدالة الاجتماعية في توزيع الثروات.

من هنا تبدأ أسس السياسة الهيكلية مع هدف واضح خلق فرص عمل في هذه المناطق من خلال تطوير النشاط الاقتصادي للقطاع الخاص. ولمعرفة نوع الأنشطة التي يُمكن القيام بها يتوجّب القيام بعملية مسحّ للقدرات البشرية الموجودة في هذه المناطق بهدف القيام بتحليل Value Chain Analysis يسمح بإستخراج القطاعات التي من المُمكن الإستثمار بها. وهنا يُمكن للحكومة بدء سياسية ضريبية مؤاتية في هذه المناطق بهدف جذب الإستثمارات وتوظيف عُمّال من هذه المناطق. وبالتكامل مع هذا الأمر، يتوجّب على الحكومة تأمين البنى التحتية اللازمة لهذه الأنشطة من طرقات وكهرباء وغيرها.

كما يُمكن الملاحظة من الأرقام، نرى أن هيكلية الإقتصاد اللبناني تُعطي قطاع الخدمات 75.8%، القطاع الصناعي 19.1%، والقطاع الزراعي 5.1% وهذا يعني أن هناك تخلّف إقتصادي في لبنان. وإستخدام عبارة التخلّف الاقتصادي نابع من التعريف النظري والذي ينصّ على أن التخلّف الإقتصادي هو وضع يكون فيه الإنتاج الفعلي للماكينة الإقتصادية أقلّ من المستوى الذي يُمكن تحقيقه. بمعنى أخر تنعكس حالة التخلّف في إستثمار جزئي للثروة الطبيعية والبشرية وهذا يؤدّي إلى توزيع غير عادل لهذه الموارد حيث أن القطاع الصناعي يستحوي على نسبة مُتدنّية مقارنة بالإنتاج العام والدخّل القومي. إضافة إلى هذا التوزيع السيء في عناصر الإنتاج هناك توزيع مُركّز على فئة من الناس مما يؤدّي إلى دخل حقيقي مُنخفض جدًا.

وبملاحظة أرقام القطاع الخارجي، نرى أن الصادرات هي بقيمة 2.95 مليار د.أ. مقارنة بـواردات بقيمة 18 مليار د.أ. وهذا يعني أن القطاع الصناعي ضعيف بنسبة هائلة ولا يستطيع أن يكفي الطلب الداخّلي. وهنا تبرز الإجراءات الهيكيلة التي من المفروض على الحكومة إتخاذها وعلى رأسها تقوية القطاع الصناعي مع تخصّص في قطاع مُعيّن. والطريقة الأمّثل للقيام بهذا الأمر تمرّ عبر تحديد أول عشرون سلّعة يستوردها لبنان ومحاولة إنشاء مصانع لإنتاج هذه السلع أوّ أقلّه تجميعها (صناعة تحويلية). وهذا الأمر سيُقلّل من عجز الميزان التجاري ومعه عجز ميزان المدفوعات كما سيسّمح بخلق وظائف للبنانيين مما يؤدّي إلى إنماء إجتماعي.

على صعيد أخر عدد كبير من سكان الأطراف ما يزالون يفتقرون إلى مهارات علمية عالية تواكب تطوّر الماكينة الإنتاجية. وبما أن هذه الأطراف ما زالت تملك العديد من الأراضي الصالحة للزراعة، لذا يتوجّب على الحكومة وضع خطّة إستثمارية لهذا القطاع يكون عمداها التحفيز الضريبي، الزراعات البديلة، والصناعات الزراعية. هذا الأمر سيسمح بدون أدنى شكّ بإمتصاص البطالة وبالتالي الفقر الذي يضرب هذه المناطق كما سيدّفع إلى خفض النزوح من القرى إلى المدن وبالتالي سيتمّ حلّحلة العديد من المشاكل المُتّصلة بهذا النزوح مثل زحمات السير، والطلب الكبير على العقارات في بيروت وجبل لبنان...

من جهة أخرى وفيما يخصّ التخلّف الاقتصادي والذي تمّ تعريفه بإستثمار جزئي للثروة الطبيعية والبشرية وبما أن لبنان يحّوي على العديد من المهارات العالية في مجال التكنولوجيا والمعرفة، لذا يتوجّب على الحكومة وضع الأسس لبدء تخصص الماكينة الإنتاجية عبر تحويل إقتصاد المعرفة والتكنولوجيا إلى جزء مُهمّ من الناتج القومي. هذا الأمر يمرّ عبر خلق مُجمّعات تكنولوجية تكون مُلتقى الجامعات والشركات الخاصة (خصوصًا الصغيرة والمُتوسطة الحجم) وذلك من خلال سياسة ضريبية مُقنعة جدًا في الخمسة أعوام القادمة. ولمن يُشكّك في إمكانية تحقيق هذا الأمر، نقول أنه يكّفي النظرّ إلى حالة كوريا الجنوبية التي أصبحت مُعادلة صعبة في مجال التكنولوجية وإقتصاد المعرفة.

على صعيد الثروة النفطية، يُمكن ملاحظة غياب أي خطّة لمواكبة عصر النفط والغاز والذي ستبرز ملامحه الأولى بحلول العام 2025 (إذا ما تمّ المضي فيه بدون أي عرقلة). هذه الخطّة أساسها تحديد القطاعات التي ستتأثر مباشرة من هذه الثروة (من خلال إعتمادها على النفط والغاز – مثل قطاع النقل) أو غير مباشرة (القطاعات الداعمة – مثل قطاع الفنادق). ثمّ على أساس هذا التحديد يتمّ وضع خطّة تسمح لهذه القطاعات بمواكبة إنتاج النفط والغاز مثل إنشاء خزّانات إستراتيجية.

على الصعيد القانوني يبقى أن أي إجراء ستتخذه الحكومة، يجب أن يكون مبني على أسس قانونية تسمح بتسهيل تنفيذ السياسة الهيكلية التي ستضعها الحكومة اللبنانية مثل قانون الشراكة بين القطاع الخاص والعام، وقانون محاربة الفساد، وقانون التحفيزات الضريبية، وقانون تحرير القطاعات المُحتكرة وغيرها.

في الجزء الثالث سنقوم بطرح سياسة ظرفية للحكومة تسمح للحكومة بتخطّي العقابات الإقتصادية والمالية الحالية بهدف إعادة الأمور إلى نصابها.