نعيش في ظلّ مجتمع ذكوري، يميّز بين المرأة والرجل، ويصنّف الناس على الأصعدة كافة، فيحيك أدوارا محددة لكل شخص، ويعتبر الرجل أقوى وأعلى شأنا من المرأة، وفي المقابل يستضعف هذه الأخيرة، ويقلّل من أهمية قدراتها الجسدية والفكرية، فيمنعها من الانخراط في مجال يُقال أنه "مقتصر" على الرجل.

لكن من حدّد شروطاً جندرية لهذه المهنة أو تلك؟ ومَن يمنع كل إنسان من الإنخراط في مجال عمل يحبه ويبرع فيه ويشعر بالشغف تجاهه؟ فنساء كثيرات سجّلن نجاحات واسعة في مهن صنّفها المجتمع على أنها مقتصرة على الرجال، ورجال كثيرون يحققون أكبر الإنجازات في مجالات تطغى عليها النساء. وبالتالي لا يوجد أي عائق أمام نجاح الإثنين في مهنة ثابرا في سبيلها، وتعلما مبادئها وأساسياتها، واكتسبا خبرات واسعة فيها.

وفي وقت تسيطر الذهنية الذكورية على بعض المهن والمجالات في عالمنا العربي، دخلت الكابتن رولا حطيط إلى عالم الرجال من الباب العريض، ولمع اسمها في قطاع الطيران، لتُصبح المرأة الأولى والوحيدة في لبنان التي تقود طائرة، وتثبت بذلك أن النساء قادرات على تحقيق طموحاتهنّ وتسجيل أهم النجاحات، لو فتحت أمامهنّ أبواب الفرص. وبعد أكثر من عشرين عاماً على انضمامها إلى "طيران الشرق الأوسط"، "MEA"، لا تزال الطيار الأنثى الوحيدة في الشركة.

"الإقتصاد" التقت مع الكابتن حطيط للإطلاع على مسيرتها المهنية الطويلة والمليئة بالأحداث المشوّقة، والتّعرّف إلى طموحاتها المستقبلية، ونصيحتها للمرأة والرجل.

- أين كانت بداية مسيرتك المهنية؟ وكيف قررت الإنتقال إلى مجال الطيران؟

كنت أتخصص في الرياضيات في "الجامعة الأميركية في بيروت"، "AUB". وخلال سنتي الأولى، علمت من أحد الأصدقاء في الجامعة، أن شركة طيران تطلب عددًا من الطيّارين، لكنه تحدّاني وقال بتهكّم وسخرية أن المرأة غير قادرة على قيادة طائرة أو على استلام مهمات صعبة، فقررت إثبات العكس، وقلت له لنتقدم معاً إلى الإمتحان، وهذا ما حصل. فمن أصل ألفي شخص تقدموا بالطلبات،فإن مئة شخص خضعوا للإمتحان الخطي، وتسعة أشخاص فقط نجحوا وبدأوا مرحلة الدراسة في اسكوتلندا لمدة سنة ونصف لكي يصبحوا مساعد طيار؛ وكنت واحدة منهم، في حين أن صديقي رسب.

وجدت أن مجال الطيران صعب ومثير للإعجاب في آن معا، فالإنسان يعمل طوال السنة لكي يسافر مرة واحدة، وبالتالي من الممتع أن يكون عمله في السفر؛ وهنا اقتنعت بالفكرة أكثر، وثابرت لكي أصبح طيّارا.

لكن والدي عارض في البداية، إذ إنه كان مقتنعا بضرورة أن أكمل مسيرتي الدراسية، وأحصّل شهادة الدكتوراه في الرياضيات، لأنني كنت الأولى في كل جامعات لبنان. لذلك لم يشجعني على القيام بهذه الخطوة، خاصة أنني سأترك الجامعة، وسأسافر بشكل دائم، وسأكون "سائقة" بنظره. لكنني بقيت مصرة على رأيي، ونجحت في النهاية في إقناعه بأنه الخيار الصحيح، واليوم هو فخور بي إلى أقصى الحدود!

- كيف تصفين أول رحلة طيران قمتِ بها؟

استلمت منصب مساعدة طيار للمرة الأولى خلال العام 1995، في رحلة من بيروت إلى جنيف، وثم من جنيف إلى بروكسيل، وكان على متن الطائرة مئة وعشرون راكبًا. لكن اللحظة الأولى كانت مليئة بالرهبة والشغف والترقب.أما الرحلة التي قدت بها الطائرة كطيار للمرة الأولى، فكانت من لبنان إلى عُمان خلال العام 2011، وشعرت حينها بمسؤولية كبيرة لأن حياة الكثيرين بين يديّ، لكن الرحلة مرّت بهدوء وسلاسة.

- هل واجهت الصعوبات في عملك لأنك المرأة الوحيدة؟ وهل تعرضت إلى أي تمييز؟

من الطبيعي أن أواجه هذا النوع من العوائق، فأولا هذا العمل بحد ذاته صعب قليلاً على المرأة، خاصة إذا كانت زوجة وأمّ. لكن مهنة الطيران بحد ذاتها ليست صعبة، إنما المجتمع ينظر إليها من منطلق السفر الدائم والمخاطرة، في حين أنها مهنة لا تحتاج إلى عضلات، بل إلى القليل من الذكاء الموجود عند المرأة كما عند الرجل.

وثانياً، لم يكن من السهل أن يثق مجتمعنا الشرقي بالمرأة، فهناك راكب مثلا فضّل النزول من الطائرة عندما علم أنني أقودها. وهذا الكلام يضعني حتما تحت ضغط كبير، لكنني لا آخذه بطابع شخصي، لأن المجتمع اعتاد أن يرى المرأة مضيفة أو معلمة، وليس طيارة؛ وبالتالي يعتبرون أنها عاطفية أكثر من عقلانية. لكنني واثقة من مهاراتي وقدراتي، وأشدد على أن سلامة الركّاب في سلّم أولوياتي، وسلامتي من سلامتهم.

ولا بد من الاشارة إلى أن الركاب باتوا يتقبلونني كامرأة أكثر من السنوات التي مضت، حيثُ كان البعض يعربون عن قلقهم وخوفهم عندما يعلمون أنّ امرأة موجودة في مقصورة القيادة. فتصوّر المجتمع للمرأة الطيارة تغير مع مرور الوقت، رغم أن عدد الطيارات العالم العربي لا يزال أقل من أوروبا.

أما بالنسبة الى زملائي، فخلال أول عامين كمساعدة طيار كان الوضع أصعب من ما هو عليه اليوم، وفي بداية مسيرتي كان الطيارون الرجال ينظرون باستغراب إلى وجودي معهم، وكانوا يراقبون كل حركة أقوم بها، لأن البعض لم يعتد على رؤية امرأة في قمرة القيادة.

- كيف تواجهين اليوم العقلية الشرقية الموجودة في مجتمعنا؟

أسعى دائماإلى إثبات نفسي ليس فقط كـ "رولا حطيط"، بل كامرأة لبنانية تستطيع النجاح في أي مجال! كما أن معارضة بعض الأشخاص تعطيني دفعا أكبر لكي أستمر وأتقدم.

نصيحتي للرجل: "آمنوا بنا" ... وللمرأة أقول: "أكيد فيكي تعملي شو ما بدك"!..

- كيف تحققين التوازن بين عملك وبين حياتك الخاصة ودورك كزوجة وأم؟

زوجي طيار أيضاً في شركة الـ"ميدل ايست"، ولهذا الأمر سلبياته، فأحياناً أكون مسافرة وأعود لأجده مسافراً أيضاً وبالعكس، لكننا اعتدنا على نمط الحياة هذا.

أما بالنسبة إلى الأمومة، فأنا أضحّي كأي أم عاملة، وأحاول قدر الإمكان الاستفادة من وقت الفراغ، لكي أقضيه مع ابنيّ محمد وآدم. ولو كان النهار يتألف من ثلاثين ساعة، لما كان ليكفيني، فبالاضافة إلى الطيران، حصلت على إجازة في الرياضيات من "الجامعة الأميركية في بيروت"، فور عودتي إلى لبنان. وأتابع حالياً الدراسة، لتحصيل شهادة الماجستير في الفلسفة. كما أنني استلمت منذ فترة، منصب نائب الرئيس الاقليمي لمنظمة "International Federation of Air Line Pilots Associations"، "IFALPA"، المتخصصة بالطيران.

لكن المهم أن ينظم الإنسان وقته ولا يضيّعه، ويدمج أحياناً نشاطين أو أكثر مع بعضهما البعض، فبدلاً من الجلوس لشرب القهوة لمدة ساعة، أشربها خلال القيادة، كما أدرس في الوقت الذي يدرس فيه الأولاد.

- ما هي برأيك العوامل الذي أسهمت في نجاحك؟

لكي ينجح الإنسان يجب أن يكون حاضراً للنجاح أولا ، وأن يتمكن من النهوض بعد السقوط.

ثانيا، المجتمع يساعد كثيراً على تطور الإنسان، وخاصة الرجل. ولولا إيمان زوجي ووالدي بي وبقدراتي، لما تمكنت من تحقيق شيء. فالرجل في مجتمعنا، يساعد كثيراً على إنجاح المرأة، إن كانت أخته، أو زوجته، أو ابنته، أو أمه،... والأهم أن يثق بقدراتها.

- ما هي مشاريعك وطموحاتك المستقبلية على الصعيد المهني؟

لا يزال لدي العديد من الطموحات، لكنني لا أستطيع التكلم عنها في الوقت الحاضر. ولكن أسعى في المستقبل القريب إلى نيل شهادة الدكتوراه في الرياضيات، وذلك لكي أفي بالوعد الذي قطعته لوالدي.

- كيف تقيمين وضع المرأة في مجتمعنا اللبناني اليوم؟

يجب أن نقتنع بواقع أننا نعيش في مجتمع شرقي، والعقلية الشرقية لا تعطي المرأة حريتها؛ فمثلا تمنعها أحيانا من السفر للتعلم في الخارج.

كما أن الأهل يربّون الفتاة على مبدأ أنها ستتعلم وتصل، لكنها في النهاية سوف تؤسس عائلة وتركز عليها فقط! وهذا الأمر يظهر جلياً من خلال جملة "انشالله منشوفك عروس" التي نسمعها تتردد بشكل دائم. وهنا لا بد من القول إننا نأمل بالطبع أن نرى كل فتاة أجمل عروس، لكن هذا الواقع يتوافق تماماً مع نشاطات أخرى؛ وبالتالي تستطيع أن تكون زوجة ناجحة وامرأة عاملة ناجحة في الوقت ذاته!

من ناحية أخرى، لا تزال القوانين في لبنان مجحفة بحق المرأة، لكننا تقدمنا كثيراً، ونتمنى تحقيق المزيد من التقدم في المستقبل.

- ما هي نصيحة رولا حطيط إلى المرأة؟

أنصح الرجل أولا أن يثق بالمرأة، فهي تشكل نصف المجتمع، وبالتالي إذا لم نؤمّن لها العمل، والثقافة، والحرية، والثقة لكي تبرهن نفسها، فسوف نبقى في أماكننا ولن نتقدم أبدا! فالمرأة تربي الأجيال، وتتمتع بدور بديهي في المنزل، لذلك يجب أن يكون لها دورٌ كبيرٌ أيضاً في المجتمع بشكل مباشر.

نصيحتي للرجل: "آمنوا بنا، لأننا نشكل نصف المجتمع، وهذا المجتمع سيبنى إذا وحّدنا جهودنا معا".

أما المرأة، فلا أقول لها سوى "أكيد فيكي تعملي شو ما بدك"!...