لا تزال التقارير حول الحقائب الوزارية وتوزيعاتها والتوقعات بالوزراء الجدد تصدر الواحدة تلوى الأخرى، ولكن هذا كله لا يعني المواطن بشيء. ما يعني المواطن اللبناني اليوم هو لقمة عيشه التي باتت مهددة في بلدٍ يتغنى أهله بالموارد والقدرات والمواهب الشابة، لكنه لا يجد دليلاً حسيّاً يخصّها. ما يهم المواطن اللبناني اليوم هو أن لا يهاجر أبناؤه من أجل وظائف يستحقونها في وطنهم لو لم يستولي عليها أصحاب المحسوبيات. ما يعني المواطن اللبناني هو وجود قانون يحميه عندما يعترضه إفتراء بعض الزعران أصحاب العضلات المفتولة، أو ابن إحدى العشائر، أو ابن أحد المسؤولين تحت شعار "عارف حالك مع مين عم تحكي؟". أسماؤكم كلها لا تعنيه، وشهاداتكم التي تنصّبكم بغير مكانكم المناسب لم تعد تعنيه، حتى حصصكم من ثروات وطنه التي تتقاسمونها لم تعد تعنيه، كل ما بات يعنيه اليوم هو العهد الجديد الذي وعدتموه به وجعلتموه يتأمل حياته بعدد فواتير أقل، بمعيشة محترمة وأولاده إلى جانبه.

اليوم، ومع الأخبار عن الوصول إلى الصيغة الأخيرة للتشكيلة الحكومية أجرت "الإقتصاد" هذا اللقاء مع المستشار الإقتصادي للرئيس ميقاتي د. سمير ضاهر، حول الأولويات التي يجب أن تنظر إليها الحكومة وأمور أخرى في العهد الجديد:

- اليوم وبعد أن بات لدينا رئيسٌ جديدٌ للجمهورية يطرح القيام بإصلاح إقتصادي يقوم على التخطيط والتنسيق بين الوزارات، ما هي الآلية التي يجب اتباعها للسير في هذا الطرح؟

إن نمط العمل في القطاع العام وبرنامجه وسيره هو - بالدرجة الأولى، وبالعرف الدستوري- مسؤولية الحكومة وليس رئيس الجمهورية، وعليه فمن الضروري بلورة برنامج عمل الحكومة هذا وطرحه، بما فيه شقّه الاقتصادي، في البيان الوزاري.

إن ملء سدّة الرئاسة بعد شغور طويل سيسمح، بل يكون المفتاح لانتظام العمل المؤسساتي بدءاً بالتئآم مجلس النواب كي يستعيد دورَه كسلطة تشريعية تستصدر القوانين، و– ما لا يقل شأنا – كهيئة رقابية على ممارسات السلطة الإجرائية في تطبيق القوانين والأنظمة، وردعها عن استباحة المال العام (تنص المادة 75 من الدستور أنه في غياب رئيس الجمهورية يَغدو البرلمانُ هيئةً إنتخابيةً، فينكَفئ دورُه كسلطةٍ تشريعيَّةٍ ورقابية). فمن المسلّمِ به أن الترابطَ وثيقٌ بينَ أداءِ الإقتصادِ ونموِّه من جهةٍ، والواقعِ السياسي والإطارِ المؤسساتي من جهة أُخرى. وكيف لا يكون ذلك في لبنانَ وركيزةُ إقتصادِه الأساسية قطاعُ الخدماتِ(مصارفَ، سياحةٍ، تجارةٍ، نقلٍ،...) والذي يتأثّر بشكلٍ حثيثٍ بالإستقرارِ وسلطةِ القانون وعمل المؤسسات.

إن جود رئيسِ الدولة أساسي، إذ إنه يسهر على احترام الدستور الذي يُخوِّلُه العملَ والمبادرةَ لدرءِ الأخطارِ، بما فيها الإقتصادية، وتفعيل الإقتصاد الوطني عبرَ أدواتٍ عِدَّة مُتاحَةً له في الدستور. لذا، فإن وجود الرئيس ضروري خاصة وأن لبنان يتخبَّط في عاصفةٍ إقليميةٍ عارمةٍ، تتقاذفه أمواجُ حربِ سوريا، وتنال منه شظايا أحداث اليمن والعراقِ والبحرَين، ويشهد نزوحاً بشرياً سورياً بحجمٍ غير مسبوق، ويعاني من تداعياتِ ركودٍ إقتصادي إقليمي نتيجةَ انهيارِ أسعارِ النفط، لتَنْضَب من جرّاءِ كلِّ هذا، ومن فقدانِ الثقةِ بعملِ المؤسسات - بما فيه خاصة الشغورالرئاسي – حركة الإستثمارِ، وتتنامى هجرةُ ذوي المهاراتِ.

- ما هي الأمور التي يجب أن تضعها الحكومة الجديدة على رأس سلّم أولوياتها؟

من أهم السياسات والإصلاحات المطلوبة، الآتي:

المهمةُ الأولى -إقرارُ الموازنة لوَقفِ العَبَثِ بالمالِ العام، هذا والفساد مستشرٍ لدرجةٍ لم يعهدها لبنانُ في تاريخِه المعاصر. فمن الواجب ترميم المالية العامة، وعمودها الفقري موازنة الدولة، والتي لم يتم إقرار أيِّ قانون أو تقديم أيّ "قطعِ حسابٍ" بصددها منذ عقدٍ ونَيِّف تحت شتَّى الحجَجِ والذرائع– وهو أمرٌ غيرَ مسموعٍ به، ما عدا في الدول المارقة والفاشلة. ولم تعمل الدولةً منذ ربع قرن على تقليص عجزٍ ودينٍ متناميين، وإقرارِ موازنةٍ للحدِّ من إنفاق مُفرِط وعقيم لم يهدف إلّا لإتْخام الإدارات بالمحاسيب والأزلام إحكاماً للنفوذِ على مقاليدِ السلطة. 

الموازنةُ العامة ليست من ضروبِ الترفِ أو الكماليات، بل أداةٌ إلزامية لتجسيد الرؤية الإقتصادية للحكومة عبر تَحديد أولويات الإنفاق بناءً على معاييرَ واضحة وموضوعية في إطار برامِجَ عملٍ تَتَوَخى تحقيقَ النمو الإقتصادي والتنمية البشرية. وتأكيداً لأهميتها، فالمادة 86 من الدستور تُخَول رئيسَ الجمهورية أن يُصْدِرَ الموازنةَ، إن لم يُقِرَّها مجلسُ النوابِ بأول شهرٍ من السنة (هذا إن أوْدعتها الحكومةُ المجلِسَ قبل تشرين الأول من العام المنصرم). كما أن المادة 33 تُعطي الرئيسَ صلاحيةَ الدعوةِ لفتحِ عقودٍ إستثنائية للبرلمان، الأمر الأساسي إن طرأت أمورٌ إقتصادية ملحّة. كذلك المادة 85 التي تنوط بالرئيس صلاحيةَ فتحِ إعتماداتٍ إضافية في الموازنة. كما أن المادة 65 تُخوِّل الرئيس أن يطلب حل مجلس النواب إذا إمتنع، من غيرِ أسبابٍ قاهرة، عن الإجتماع طوال عقد عادي، أو "في حالِ ردِّ الموازنة برمَّتِها بقصدِ شَلِّ الحكومةِ عن العمل".

المهمةُ الثانية -استعادة المالية العامة عافيتها بمعالجة مسألة الدين العام ووضع استراتيجية فعّالة لتخفيض حجمه وتحسين إدارته.

المهمة الثالثة -تأهيل البنى التحتية المتهالكة وتطويرها لتأمين الحاجات من كهرباء، ونقل، وإمدادات المياه والصرف الصحي، والإتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وذلك بشكل كافٍ وبأسعار معقولة تتناسب مع نوعية الخدمة المتوفرة وجودتها، ومُعدّلات الدخل. ومن الضرورة وقف التدهور البيئي وما يرافقه من تدمير للمواقع الطبيعية من شواطئ البحر وأحواض الأنهار والأودية، مع الحفاظ على إرث لبنان الحضاري والمعماري والثقافي.

المهمة الرابعة -إدخال برامجِ الحمايةِ الإجتماعية، من تغطيةٍ صحيةٍ شاملة ونظامِ تقاعد، حيث أن غيابَهما لا يتناسب مع مستوى الحياة ومعدَّلات الدخل في لبنان. فالحماية الإجتماعية هذه تنصف الإنسانَأ ولاً، وتُحرِّرُ المواطن ثانيةً من الإرتهانِ لمجموعةٍ هنا والتبعيةِ لزعيمٍ هناك. وفي هذا الصدد، يُرجى من الرئيس أن يعمل على إصدار قانونِيْن أصبحا جاهزَيْن: أولُهُما التغطية الصحية للجميع، وهيتضيفُ مليوني لبناني غيرَ مشمولين حالياً في منظومَةِ الضمان، أي نصفَ المواطنين اللبنانيين المقيمين. ويمكن تحقيقُ ذلك بكلفةٍ لاتتعدّى ما يوازي على سبيل المثال ثلثَ العجزِ السنوي لشركة كهرباء لبنان؛ وهو مبلغ يمكن للخزينة تحمُّلُه بِصَدَدِ مشروعِ إصلاحٍ بهذه الأهمية وإن تَطَلَّبَ ذلك جدولةً على مراحل؛ وثانيهما نظام التقاعد، البالغُ الأهميةِ أيضاً، ويرمي إلى إستبدالِ "تعويضِ نهايةِ الخدمة" الذي يدفعُ مبلغاً مقطوعاً لعاملي القطاع الخاص، بنظامٍ بديلٍ يعتمدُ آلياتِ الرواتبِ التقاعدية مدى الحياة إسوةً بموظفي القطاع العام، وتمشِّياً مع الممارساتِ الدولية. وإذ لبنان بلدٌ فتيّ، يمكن لإقتصاده أن يَحْمِلَ كِلفةَ النظامِ الجديد نظراً لضآلة عددِ المتقاعدين نسبةً إلى العاملين المساهمين بتمويله.

المهمة الخامسة-تنفيذ إصلاح مؤسسي وإداري شامل يهدف إلى رفع مستوى وقدرات الخدمة المدنية وتحسين الحوكمة والإنتاجية على صعيد مؤسسات القطاع العام، وإعادة النظر بهيكليتها.

- هل ترى أننا سنشهد تقدّماً كبيراً في ملف النفط والغاز خلال العهد الجديد؟

لم يستثمر لبنان حتى الآن مواردَه الطبيعية، وبالتالي فهو يعتمد على مصادر الطاقة الخارجية ويستورد المشتقّات النفطية. لذلك، إن استغلال الموارد البترولية البحرية يمثّل أهمية إستراتيجية بالنسبة إلى لبنان ويعزّز مفهومَ أمن الإمداد بالطاقة. لذا فإن الإستكشاف والتنقيب عن النفط والغاز يشكِّلان أولوية لما لهذا القطاع من تأثير إيجابي على الإقتصاد الوطني. أما بالنسبة إلى الإطار القانوني، فبعد أن اعتمد لبنان سياسة نفطية وقواعد وتنظيمات الأنشطة البترولية وأقرّ قانون الموارد البترولية في المياه اللبنانية، يجب الإسراع بإنجاز المراسيم التطبيقية والعقد النموذجي وإتفاقية التشغيل المشترك والقواعد المحاسبية، وهي من أولى مسؤوليات حكومة فعّالة تعمل تحت مظلّة رئيس الجمهورية. إنما على السلطات اللبنانية أن تتنبَّه على ما قد يكون لإنهيار أسعار النفط في منتصف عام 2014-- وهو إلى حدِّ بعيد ناتج عن تحوّلات هيكلية في قطاع الإنتاج (بخاصة عامل النفط "الصخري") أكثر منه عن التقلّبات الدورية في توازنات العرض والطلب – من إرتدادات على إستراتجية القطاع وسياستهفي لبنان، وإن كان هناك من داعٍ لإعادة تقييمهما. فإن كان هذا هو الواقع، فقد لا يتمكن لبنان من إحراز تقدم ملحوظ في ملف استخراج النفط والغاز نتيجة تباطؤ أو عدول شركات النفط العالمية الكبرى عن الإستثمار في القطاع.

-ما هي توقعاتك لنسب النمو هذا العام، مع الإشارة إلى توقعات البنك الدولي بنسبة 1.8%؟

قد تكون توقعات البنك الدولي مقبولة ومقنعة، وهي تشكل تحسناً نسبةً لسنة 2015 رغم تدنّي هذا المعدل. ذلك أن الإقتصاد اللبناني لا يزال يعاني بشكلٍ ملحوظ من أحداث سوريا، نظراً لاعتماده على قطاعِ الخدماتِ الذي يتأثر بالمخاطر الأمنيةِ والسياسية، بمعزلٍ عن وطأة النزوح. فالعوامل السلبية لحرب سوريا ستبقى بيِّنَةً (تراجع الإستثمارات، التعَثُّر بطرقِ التجارة، المناخِ غير المؤاتي للحركة السياحية، تقلُّص فرص العمل للبنانيين نتيجة وِفْرَةٍ اليدِ العاملة النازحة، ما يؤثِّر على مستوى معيشةِ المواطنين من خلال ارتفاع معدَّل البطالة وعدد الفقراء).

- هل تتوقع عودة السياح الخليجيين مع رئاسة الحريري للحكومة الجديدة؟

إن حركة سياحة الإخوان الخليجيين إلى لبنان برأي لا تمتُّ بشكل أساسي إلى موضوع تولّي الحريري رئاسة الحكومة؛ فالرئيس سلام بشكل عام لا يتمايز عن الرئيس الحريري بتموضعه السياسي تجاه دول الخليج، كما أن حكومته تتّصف "بالوحدة الوطنية" كما هو منتظر من حكومة الرئيس حريري التي ستجمع كل الأفرقاء اللبنانيين بغض النظر عن علاقتهم بدول الخليج. إن عودة السياح الخليجيين ترتبط أكثر وبشكل وثيق بإنجلاء الأحوال الأمنية في لبنان وتحسّنها،وما لذلك من صلة بأوضاع الحرب في سوريا.