إنها نظرة أمل للمُستقبل، تُبصر النور مع خطاب القسم والذي أعلن فيه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون عن نيّته محاربة ​الفساد​. لكن هذه المحاربة تفرض معرفة هذا العدو وأماكن وجوده كما ودوافعه، من هذا المُنطلق سنُحاول تعريف هذه الآفة الخطيرة وطرح حلول لمحاربتها.

آفة المجتمعات وقاتل التطور والإنماء، هكذا يُمكن وصف الفساد الذي ينخر الاقتصاد ال​لبنان​ي ويمنع الإنماء في العديد من المناطق اللبنانية. هذه الآفة التي في الظاهر تداعياتها مالية، هي في الحقيقة خطر وجودي على المجتمعات لأنها مفهوم مُناقض للعدالة والمُساواة في المُجتمعات والتي من المفروض أنها تطورت وأصبح الشق الإجتماعي فيها من أولويات الحكومات في العالم.

الفساد هو عبارة عن ظاهرة قديمة جدًا، ونظرة الباحثين للفساد تختلف بحسب إنتمائهم العلمي. فالفلاسفة بحثوا عن أسبابه في إطار المدينة الفاضلة وذلك منذ قرون (أفلاطون، أريستوت...) حيث تمّ إستخدام كلمة فساد للتعبير عن سلوك الفرد والمُجتمع ككل. وما يُعبّر عن البعد الأخلاقي لظاهرة الفساد التعريف التالي: "تدمير كلّي لتأدية الواجب من خلال رشوة أو خدمة".

أمّا الباحثين في العلوم السياسية فبرز إهتمامهم بالفساد في ستينات القرن الماضي حيث حاولوا دراسة الفساد من خلال مصفوفة فردية، نفعية، ووظيفية بهدف إظهار النقاط الإيجابية والسلبية لهذه الظاهرة.

إهتمام الباحثين الإقتصاديين بالفساد حديث ويعود إلى سبعينات القرن الماضي وهذا الاهتمام يرفض الإدانة الأخلاقية لهذه الظاهرة ويُحاول من خلال فرضيات إبراز إيجابيات وسلبيات الفساد. لكن العائق الأساسي لهذه الأبحاث يبقى في الطابع السرّي لعملية "الفساد".

وتمّ إهمال الفساد في الدراسات خلال الحقبة التي إمتدّت من الثمانينات حتى بداية هذا القرن. إلا أن السياسات الأممية (البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، المفوضية العليا للاجئين...) التي تفرض إعطاء مساعدات وقروض للدول الفقيرة، أعطت نفحّا جديدًا تمثّل بكثرة الدراسات التي أخذت تهتم بهذه الظاهرة لما لها من تأثير سلبي على أداء الماكينة الإقتصادية.

قمّة الفساد في التعاملات الدولية كانت في تسعينات القرن الماضي حيث أخذت الشركات العالمية بدفع رشوات إلى بلدان من العالم الثالث بهدف الحصول على عقود لإستغلال الثروات الطبيعية أو الحصول على أفضلية في الأسواق الداخلية في هذه البلدان. وأتت الإستثمارات الأجنبية المباشرة لتطرح فكرة التحوّل العميق في التطور الاقتصادي للدول الفقيرة وهذا الأمر زاد المنافسة بين الشركات وزاد معها الفساد.

في البلدان المُتطوّرة تمّ خلق منظومة قانونية – إدارية – إعلامية لإحتواء الفساد، جعلت من هذه الدول فعّالة إقتصاديًا نظرًا إلى إختفاء الكلفة الإقتصادية لهذه الظاهرة. وقد ساعدت الهيئات الدولية كما والمجتمع المدني كلٌ من وجهة نظره في إرساء قيم أخلاقية تمنع الفساد في أسواق هذه الدول وعلى رأسها الأسواق المالية التي أصبحت الآلية الأساسية فيها هي الشفافية. وبالتالي تمّ خلق منافسة شريفة أدّت إلى البحث عن الفعّالية الإقتصادية والتي أدّت بدورها إلى رفع الأداء الإقتصادي.

غياب منظومات وسياسات في دول العالم الثالث لمحاربة الفساد دفع بالعديد من الشركات التي تحترم القوانين إلى العدول عن الإستثمار في هذه الدول من ناحية أن الفساد يؤثر على المناخ الاقتصادي والمالي في هذه الدول وبالتالي يُقلّل من فعّالية الحكومة والشركات من خلال وصول أشخاص أو شركات لا تمتلك المواصفات إلى إدارة موارد. كما أن غياب سياسات لمحاربة الفساد يؤثر سلبًا على آلية إتخاذ القرار السياسي والإقتصادي.

يختلف الباحثون في طرح تعريف مُوحّد للفساد حيث أن كل فريق يُعطي تعريف من منطلق حيثياته العلمية والعملية:

- التعريف من خلال تصنيف السلوك وذلك بإعتبار الفساد أنه إستخدام للسلطة بهدف الربح الشخصي؛

- التعريف من خلال الوظيفة العامة عبر إعتبار الفساد إستخدام السلطة العامة بهدف إرباح شركة خاصة؛

- التعريف من وجهة نظر الأسواق وذلك بإعتبار الموظف العام الفاسد وظيفته كتجارة؛

- التعريف من خلال المصلحة العامّة عبر إدخال البعد الأخلاقي بإعتبار الفاسد شخص لا يتمتّع بقيم أخلاقية؛

- التعريف من خلال نظرية الوكيل – العميل: في هذا الإطار يتمّ تحديد الفساد من خلال التفاعل بين الوكيل (موظف الدولة) والعميل (شخص أو شركة خاصة) حيث أن التباعد بين نظرة الوكيل والعميل يتمّ حلّها بواسطة الرشوة؛

- التعريف من خلال النظرية النيوكلاسيكية إذ أن الفساد هو السلوك الذي يؤدي إلى خرق القواعد العامة التي تُعتبر أساسية لحفظ النظام الديموقراطي.

ويتّخذ الفساد أشكالًا عدة منها الفساد بهدف الربح، الفساد السياسي، الفساد الإداري، التأثير. وبالتالي يصف العالمين شليفر وفشني الفساد كـ "بيع الممتلكات العامّة لأهداف خاصة".

مما سبق نرى أن تنوّع الفساد وصعوبة حصره مع البعد الطائفي الخاص بلبنان يفرض إستراتيجية محاربة فساد مبنية على الإجراءات التالية:

أولًا – تخفيف دور الدولة في الإقتصاد: هذا الأمر يتمّ عبر فتح الاقتصاد على المنافسة مما يُقلّل من محاولات الفساد؛

ثانيًا – جعل قواعد اللعبة أكثر شفافية: وهذا الأمر يتمّ من خلال وضع رقابة تلقائية وبمتناول عامة الشعب عبر نشر التقارير والنصوص؛

ثالثًا – وضع الإدارات العامّة تحت المنافسة: وهذا الأمر يتمّ من خلال جعل الإدارات العامة تتنافس في ما بينها مما يعني عدم الحصرية في الخدمات؛

رابعًا – دعم إستقلالية وفعّالية القضاء: وهذا الأمر يتمّ بالدرجة الأولى عبر جعل القضاء يختار مسؤوليه مع رقابة من قبل الدولة. هذا الأمر يجعلّ القاضي حرًا في قراراته القضائية وبالتالي لا يكون عرضة لضغوطات من أصحاب النفوذ؛

خامسًا – فصل فعلّي بين السلطات: وهذا الأمر لا يُمكن أن يحصل إلا عبر الرقابة الفعّالة على الآليات الدستورية وذلك بهدف فصل السلطات عاموديًا وأفقيًا؛

سادسًا – إجراء إصلاحات على الوظيفة العامّة: وهذا يعني إدخال مبدأ المحاسبة على الفعّالية وبالتالي الأجر، التوظيف على أساس المهارة وليس المحسوبية، تفعيل العمل الرقابي والمُحاسبة، ورفع الأجور في بعض المناصب الحسّاسة؛

سابعًا – جعل الدوّلة قريبة من المواطن: وهذا الأمر يتمّ من خلال الإستماع إلى المواطن، وضع التقارير عن حسابات الدولة في يد المواطن، وإقناع المواطن بالإصلاحات الإقتصادية والسياسية متى لزم الأمر.

ثامنًا – خلق الحكومة الإلكترونية والتي تسمح بتأليل كل معاملات المواطنين وبالتالي التقليل من سلطة الموظف الفاسد وزيادة الفعّالية في المعاملات الإدارية.

إذا كما نرى، فإن محاربة الفساد هو عمل شاق. وإذا كان البعض ينظر إلى الفساد كفقدان للقيم الأخلاقية، إلأ أن معرفة ما يُمكن ربحه إقتصاديًا وماليًا إذا ما تمّت محاربة الفساد يُشكّل دافعًا أساسيًا خصوصًا لدى المواطن للدفع بهذا الإتجاه.