يمتعن البعض في إطلاق إشاعات وإتهامات ترتقي إلى مرتبة الخيانة الوطنية بحق الليرة اللبنانية وبحق السياسة النقدية. هذه الإشاعات والإتهامات لا أساس علمي لها وتطرح السؤال عن الأهداف الكامنة ورائها خصوصًا مع إقتراب نهاية ولاية حاكم مصرف لبنان ورغبة البعض في التحكم بمفصل أساسي في لبنان والوحيد الذي لم تخرقه السياسة – أي مصرف لبنان.

بين الدراسة التي تمّ نشرها في مجلّة جمعية المصارف والإتهام الأخير الذي طاول إقتراح حظر عمليات تحويل القروض القائمة لدى المصارف من الدولار الى الليرة، يجد القطاع النقدّي نفسه تحت سهام المُستفدين من ضرب هذا الليرة والقطاع النقدّي. والمُشكلة تكمن في ما يُنشر يدخل في خانة الإشاعات والإتهامات لأن أصحابها لا يمتلكون المعلومات اللازمة والمعرفة العلمية للحكم على وضع الليرة أو على السياسة النقدية وتبقى إنتقاداتهم في مجال التخمين والإدعاء.

عامين وخمسة أشهر ولبنان من دون رئيس للجمهورية. عامين وخمسة أشهر شهدت أعنف المعارك السياسية في تاريخ لبنان الحديث، ومع كل هذا لم تنهزّ الليرة اللبنانية.

مجردّ التصويت من قبل البريطانيين على الخروج من الإتحاد الأوروبي أفقد العملة البريطانية 10% من قيمتها. أما في لبنان، فلم تنجح آتون الحروب من عناقيد الغضب إلى عدوان تمّوز وأحداث 7 أيار، وإغتيال الرئيس الحريري، والأزمة السورية والشغور الرئاسي والشلل السياسي الناتج عنه من زعزعة الليرة اللبنانية. فكيف لهذا أن يحدث لو لم تكن السياسة النقدية سليمة وملائمة؟

يتّهمون حاكم مصرف لبنان بأن سياسته للثبات النقدّي مُكلفة، فهل يعلم هؤلاء أن كلفة التصويت على خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي هي 125 مليار دولار أميركي في ليلة واحدة؟

يقولون أن مصرف لبنان قدّم هدية للمصارف بقيمة مليار دولار أميركي، فهل يعلمون أنه في ظل إقتصاد حرّ وسعر صرف ليرة حرّ، لا يُمكن أن تكون الفائدة كما هي عليه الأن؟

إن تثبيت سعر صرف الليرة داخل هامش كان وسيظل الخيار الأمثل لبلد مثل لبنان لا ثبات سياسي فيه ولا ثبات أمني مع وجود إرهابيين على الحدود وفي ظل وجود أكثر من مليون ونصف نازح سوري وعجز سنوي في الموازنة يزيد عن الأربعة مليارات د.أ ودين عام يفوق الـ73 مليار د.أ. هذا الخيار يتناسب والأبحاث العلمية التي أثبتتّ أنه في بلد غير ثابت سياسيًا وأمنيًا وإقتصاديًا، تبقى كلفة تثبيت سعر صرف العملة أقلّ من كلفة سعر الصرف الحرّ. فهل من المعقول أن نختار سعر صرف حرّ ونحن نعلم أن أكثر من ثلثي الشعب اللبناني يقبض أجره الشهري بالليرة اللبنانية؟وكيف لهؤلاء أن يُحافظوا على قدرتهم الشرائية؟

الليرة اللبنانية تعرضت وما زالت تتعرّض لضغوطات ناتجة عن عدم الثبات السياسي والأمني كما والوضع الإقتصادي والمالي العام. هذا الأمر يُمكن ملاحظته من خلال التغيرات التي تتعرض لها الليرة يوميًا والتي لولا سياسة الثبات النقدي لكان اللبناني مُفلس منذ فترة طويلة. وإنعاش الذاكرة خصوصًا الوضع في العام 1983 وما تعرّضت له الليرة اللبنانية من تراجع مقابل الدولار الأميركي، كفيل بالقول نعم للثبات النقدي.

 

الأسواق المالية تحوي على فئة من المُستثمرين هدفهم الأساسي المُضاربة بغية تحقيق الأرباح (Speculators). هذه الفئة خلقت أزمات جمّة في أوروبا خلال العقود الماضية وحتى في أميركيا (LTCM). وقد تمّ وضع قوانين للحدّ من تصرفات هؤلاء المضاربين وذلك في أكثر البلدان المُتحرّرة إقتصاديًا وماليًا.

الإتهامات التي تطال مصرف اليوم تنص على أن هناك أهداف غير مالية وراء طرح حظر عمليات تحويل القروض القائمة لدى المصارف من الدولار الى الليرة. وهذا الأمر في المطلق لا يُمكن لأحد أن يعرفه إلا السلطات النقدية لأنها الوحيدة التي تمّتلك معلومات كاملة.

والبحث في تغيّرات سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي (Volatility)، يؤكد أن الليرة ومنذ ثلاثة أشهر تتعرض لضغوطات قوية سببها المضاربة بالدرجة الأولى والأهداف غير المالية بالدرجة الثانية. هذه الضغوطات قد تدفع بالليرة إلى فقدان قيمتها إذا لم يتمّ لجمها عبر إجراءات مثل الهندسة المالية التي قام بها مصرف لبنان أوالإقتراح القاضي بحظر عمليات تحويل القروض القائمة لدى المصارف من الدولار الى الليرة.

المُضاربة التي يعمد المُستثمرون للقيام بها تنص على الإستفادة من فرق سعر الفائدة بين الدولار الأميركي والليرة اللبنانية. وبالتالي يعمدون إلى زيادة الطلب على الدولار مقابل الليرة اللبنانية مما يدّفع إلى فائض بالعرض على الليرة اللبنانية. والمصارف اللبنانية تحوي على كمّ كبير من هذه الأخيرة التي لا تستخدمها كما يجب أن تُستخدّم في الماكينة الإقتصادية عبر قروض إستثمارية. هذا الأمرّ يؤدي إلى زيادة الضغط على الليرة اللبنانية التي يُمكن الدفاع عنها بطريقتين: الأولى عبر إستخدام مصرف لبنان لإحتياطه من العملات الأجنبية. وهذا الأمر سيء لأن المصرف ومن خلال الهندسة المالية الأخيرة قام بزيادة هذا الإحتياط بقيمة 11 مليار د.أ وبالتالي فإن الدفاع عن الليرة من هذا الإحتياط سيكون مُكلفًا بحكم أن كلفة تكوين هذه الأموال كبيرة وبالتالي قد يكون هدف المضاربين شفط هذه المليارات. والثانية عبر سنّ قوانين تمنع المُمارسات غير الأخلاقية (أنظر إلى ميثاق الشرف في التعاملات المالية التابع للـ FCA) والتي لمصلحة أفراد قدّ تضع تؤدّي إلى تفقير المواطن اللبناني الذي يقبض أجره بالليرة اللبنانية.

يبقى القول إنكل نقد أو معارضة للسياسة الإقتصادية والنقدية لا يكون مبني على أُسس علمية، هو نقد غير بنّاء وبالتالي يُساهم في ضرب الليرة اللبنانية والإقتصاد اللبناني.