تتوالى الإلتزامات الدولية الجديدة للبنان على الصعيد المالي ، وفيما ان البعض يضعها في خانة الهجوم المبرمج عليه نظرا ً لوضعه الاستثنائي  يرى البعض الاخر انهاتندرج في إطار العولمة. ومما لاشك فيه ان المشهد الحالي يختصرفي  وضع ضريبي عالمي جديد.

لقد نجح لبنان من الهروب من اللائحة السوداء بعد مبادرته  في الانضمام إلى المنتدى الدولي وتعهده بتطبيق نظام التبادل التلقائي للمعلومات .

ومن المعلوم أن عمليات التهرّب الضريبي ناجمة في الأساس عن الضغط الضريبي في بعض الدول، نظراً لوجود "جحيم ضريبي" في الدول المتقدمة المعروفة بضرائبها المرتفعة بسبب تقديماتها الكبيرة لمواطنيها،  وهذا أدى إلى قيام "جنّات ضريبيّة" للتهرّب من هذه الضرائب. كما انه لاشك انمن نتائج السياسات الضريبيّة المرتفعة هروب الرساميل وانتقال الشركات، إضافة إلى البطالة وكبح النمو وسوى ذلك...

في الواقع، ان تطوّر العلاقات الضريبيّة الدوليّة ولا سيما على مستوى معاهدات تلافي الازدواج الضريبي بين الدول شهد الكثير من المناقشات وصولا الى اقرار قانون" فاتكا" في الولايات المتّحدة عام 2010 ،والذي أدى دوراً محفّزاً للانتقال إلى التبادل التلقائي للمعلومات الضريبيّة بين الدول.

وفي المعلومات ان ثمة  نقاط تشابه تقنية بمعظمها بين نظامي "فاتكا" و"غاتكا " ،الا انه  من أهم نقاط التعارض أن "غاتكا" يقوم على علاقات مؤسسية بين الدول، ويأخذ في الاعتبار سيادة الدول وقوانينها، وليس مفروضاً من دولة على دول أخرى كـ"فاتكا ". كما  أن "غاتكا" يسمح بتبادل للمعلومات بين الدول بشكل عادل، فيما أن "فاتكا" يلزم فقط بتقديم المعلومات لصالح الإدارة الضريبية الأميركية أو مكتب الواردات الداخلية الاميركي .

والسؤال المطروح كيف واكب لبنان المنهمك بسلسلة استحقاقات دستورية ومعيشية وبيئية  القوانين الضريبية المستجدة هو المتمسك بقانون السرية المصرفية؟

مرقص

المستشار القانوني للمصارف، أستاذ القانون المصرفي في معهد المحاماة والجامعاتالدكتور بول مرقص قال " للاقتصاد" انه في تشرين الثاني عام 2016، وخلال جلسة تشريعية مخالفة للدستور سيما وأن المجلس النيابي ملزم حصرياً بانتخاب رئيس للجمهورية فقط (المادة 75 من الدستور)،صدر قانون التبادل الضريبي الذي سمح لوزير المال، وليس لرئيس الجمهورية كما تقتضيه الأصول، توقيع اتفاقات التبادل الضريبي، كما أجاز للبنان تزويد السلطات الضريبية الأجنبية معلومات مالية بمجرد "الشبهة الجدية".

وقد حدد كل من مجلس الوزراء و​مصرف لبنان​ الأطر القانونية لذلك، حيث انه:

اولاً : في اطار تبادل المعلومات الضريبية "غب الطلب" (Upon Request)،  صدر  عن مجلس الوزراء قانون رقم 43 في 24 تشرين الثاني 2015، يجيز لـوزير الماليـة عقـد أو الانضـمام إلـى اتفاقيـات ثنائيـة أو متعـددة الأطـراف لتبـادل المعلومـات المتعلقـة بــالتهرب الضــريبي أو الاحتيــال الضــريبي،وذلــك وفــق الأصول التشريعية المعتمدة ومع مراعاة الشروط المحددة في هذا القانون.

ونصت المادة الرابعة من القانون المنوه عنه اعلاه، انه عنــدما تكــــون المعلومــات المطلوبـــــــــة مشـمولة بقـانون الســـــرية المصـرفية الصــادر بتــــاريخ // أو بالمــــادة مــــن قــــانون النقــــد والتســــليف، يحــــال الطلــــب المقــــدم،مع رأي وزارة المالية، مباشرة إلى "هيئـة التحقيـق الخاصـة" المنشـأة بموجـب القـانون رقـم سنة المتعلـق بمكافحـة تبيـيض الأمـوال والتـي يعـود لهـا اتخـاذ القـرار المناسـب تقيـــدا بالأحكـــام القانونيـــة والاتفاقيــــات الدوليـــة المتعلقـــة بتبــادل المعلومـــات المتعلقـــة بــــالتهرب أو بالاحتيال الضريبي.

ثانياً :اما في حالة التبادل التلقائي للمعلومات، فقد اصدر مصرف لبنان القــــرار الاساســــي رقــــم تــــاريخ 5 أب المتعلــــق بتبــــادل المشمولة بالسرية المصرفية، تماشياً المعلومات الضرائبية مع المعايير الدولية، و الذي يفرض علـىى المصـارف والمؤسسـات الماليــة، كــلفيما خصـها، ان تقـوم، علـى كامـلمسؤوليتها، باتخــاذ الاجــراءات الاداريـــة والتقنيـــة المناســـبة لتزويـد هيئــة التحقيـق الخاصــة بالمعلومــات التـي تطلبهــا السـلطات الاجنبيــة المعنيــة حـــــول حسـابات بعـــــض المقيمـــــين فـــــي بلــدانها ، وذلـــــك من وزارة الماليـــــة اللبنانيـــــة وضــــمن اطــــار تبــــادل المعلومــــات الضــــرائبية تطبيقــــاً لتوصـيات المنتــدى العـالمي حـول الشــفافية وتبــادل المعلومـات لأغــراض ضـريبية ومنظمـة التعاون والتنميـة الاقتصادية ووفقــاً للآليــــــــة التنظيميــة التي ستضعها لهذه الغاية هيئة التحقيق الخاصة بالتنسيق مع مصرف لبنان.

وعن احقية قلق بعض اللبنانيين غير المقيمين من تداعيات تطبيق التبادل التلقائي للمعلومات الضريبية الذي ستكون المصارف اللبنانية ملزمة به اعتباراً من ايلول 2018، وفق نظام "غاتكا" يقول د. مرقص : ثمة 8 إلى 9 مليارات دولار أميركي ايرادات  سنوية تدخل لبنان  من المغتربين اللبنانيين وتنعش اقتصاده، وتسدّ عدداً من حاجات أهاليهم المقيمين. وربما يكون جزء منها ناتج من عدم التصريح عن الضريبة حيث يقيم ويعمل هؤلاء. وهناك امكانية من تقلّص هذه الإيرادات.

"غاتكا"

اما عن اهمية قانون " غاتكا"  يشير د. مرقص الى انه بعيد اقرار قانون "فاتكا" من الولايات المتحدة، و نظرا للعائدات التي تم تحقيقها سواء على صعيد المساهمة في تخفيض العجز في الميزان التجاري، او على صعيد مكافحة التهرب الضريبي، قام كل من مجلس الاتحاد الأوروبي ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصاديةبوضع وترسيم أسس للتبادل التلقائي للمعلومات على المستوى الأوروبي والعالمي Automatic Exchange of Information  أو ما يعرف ايضا بال Common Reporting Standards أو Global Account Tax Compliance Act (GATCA) "غاتكا“اسوة بقانون "فاتكا".

هدف هذه الاتفاقات تعزيز الإجراءات لمكافحة التهرب الضريبي وإدخال الشفافية على النظام الضريبي الدولي، الا ان الاجراءات المتخذة في مجال العقوبات المفروضة على المتخلفين تختلف بين القانونين فهناك تدابيرتتخذها الولايات المتحدة بحق غير الملتزمين بقانون "فاتكا" عبر اقتطاع 30% على بعض انواع الدخل، في حين تنتفي هذه الاجراءات على صعيد "غاتكا".

ان النطاق التطبيقي لـ"غاتكا" اوسع، حيث انه يتطلب مراجعة الملفات لجميع العملاء وليس فقط الاميركيين منهم على غرار القانون الاميركي. و بذلك فان حجم البيانات المطلوب التدقيق بها اكبر و يتطلّب كفاءة مهنية واعتماد انظمة معلوماتية متخصصة في جمع و تحليل المعلومات الخاصة بالعملاء.

في المحصلة النهائية، لا بد من الاعتراف ان  فرض معيار دولي لتحسين التبادل التلقائي للمعلومات الضريبية بين الدول سيحدّ من الملاذات الضريبية ومن التهرّب الضريبي، وسيتيح للدول تحصيل ملايين الدولارات من المداخيل من خلال تعزيز جباية الضرائب وتطبيق الغرامات . وبغياب "السرية المصرفية"تبقى  السرية المهنية خياراً قابلاً للاستمرار.

أخيراً، وليس آخراً لا بد من القول ان موضوع الشفافية اصبح مطروحاً بمجاله الاوسع رغم ان اي خلل في النظام سيعقّد الامور . وقد يكون قانون " غاتكا" فرصة للبنان ولكن ذلك يشترط تحديد مبادئ الضريبة على الدخل من رأسمال المنقول  بدقة .

.