إنها المؤسسة الوحيدة التي لم تستطع السياسة خرقها،إنه مصرف ​لبنان​ حامي الليرة والمُدافع عنها والذي سمح على مدى أكثر من 23 عامًا من الحفاظ على الثبات النقدي. اليوم هناك حملات مشبوهة على الليرة اللبنانية تُنذر بإنهيارها، إلا أن الواقع هو في مكان أخر كما سيُظهره هذا المقال.

على إثر خسارة الأمبراطورية العثمانية في العام 1918، قام الفرنسيون بإصدار عملة موحدة بين لبنان وسوريا عُرفت بـ "الليرة"، وقاموا بربط هذه العملة بالفرنط الفرنسي على أساس 20 فرنك لكل ليرة. أصدر لبنان ليرته الخاصة به في العام 1937 وبقيت الليرة مُرتبطة بالفرنك الفرنسي والليرة السورية ليتم التخلّي عن هذا الربط في العام 1949.

تاريخ الليرة اللبنانية هو تاريخ طويل أثبتت فيه أنها قوية مقارنة بالعملات الأخرى. فبعد بداياتها في أواخر ثلاثينات القرن الماضي مععدة ليرات للدولار الواحد، أخذت بالتأرجح مع الحرب العالمية الثانية، إغتيال الصلح، أحداث 1958 والحرب الأهلية. وإذا كانت الليرة قد إستفادت من إنتقال الأموال الفلسطنية إبأن النكبة وبعدها من الأموال المصرية في العام 1952، إلا أن الحرب الأهلية وخصوصًا في أوائل ثمانينات القرن الماضي دفعت بالليرة إلى فقدان الكثير من قيمتها لتعاود في التسعينات إلى الثبات مع سياسة نقدية تعتمد الثبات النقدي.

إستخدام الدولار في الاقتصاد اللبناني جاء في أواخر أربعينات الماضي عندما تمّ فك الإرتباط بين الليرة والفرنك الفرنسي. وأخذ لبنان يستخدم الدولار في تعاملاته الخارجية وحتى الداخلية مدعومًا بالأحداث الأمنية التي دفعت العديد من المواطنين إلى الحفاظ على الدولار في جيوبهم وحساباتهم المصرفية ( أقلّه نسبة دولرة الإقتصاد اللبناني).

والمُلفت في الأمر أن وصول الليرة إلى أدنى مُستوياتها في العام 1983 وإعادة الثبات لها في التسعينات تمّ من دون أي مسّ بإحتياط الذهب. وهذا إن دلّ على شيء يدلّ على السياسة النقدية الحكيمة التي تعتمد على الهندسات المالية والتي أثبتت فعّاليتها في الدول المُتطورة وفي لبنان.

أمّا في العقدين الأخيرين، نرى أن الخضّات السياسية التي عاشها لبنان من إغتيال الرئيس الحريري إلى الشلل السياسي الحاصل اليوم مرورًا بعدوان تمّوز 2006، أحداث أيّار، بدء الأزمة السورية، إنخراط حزب الله في الحرب السورية، تفجيرات العام 2013، الشغور الرئاسي والحراك المدني لم تستطع أن تضرب الليرة التي حافظت على قيمتها في ظل الهامش المُحدّد لها أي بين 1501 و1514 ليرة للدولار الأميركي. وبالنظر إلى الرسم، نُلاحظ تدخل مصرف لبنان عند كلّ أزمة للجم سعر الصرف.

الحديث اليوم عن تراجع الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي في الأعوام الماضية كما نصّت عليه دراسة لجمعية المصارف ونشرتها جريدة الأخبار، هو حديث غير دقيق وذلك بحكم أن لا تبدلات مُتقطّعة (Discontinue) في المعطيات الإقتصادية والمالية. وفي ما يلي التفاصيل.

من المعروف أن المُعطيات الإقتصادية تراجعت كثيرًا نتيجة الأحداث السياسية التي تعصف بلبنان وخصوصًا تدعيات الأزمة السورية. هذه المُعطيات تتثمل بتراجع في ثلاث مؤشرات إقتصادية هامّة: الإستثمارات، سوق العمل، والإنتاج. بالطبع وككل كمّية إقتصادية لا يُمكن لهذه المؤشرات أن تتراجع بشكل مُتقطّع (Discontinue) مما يعني أن تراجعها هو تراجع متواصل مع سرعة مُتعلّقة بالعوامل السياسية والأمنية.

الإستثمارات تراجعت، ومعها الإنتاج وزاد صرف العمّال في لبنان. هذا الواقع لم يؤثر على الإستهلاك الذي زاد من الإستيراد ومعه العجز في الميزان التجاري وبالتالي ميزان المدفوعات. وهذا يدلّ على أن لبنان يُرسل الكثير من العملات الصعبة إلى الخارج مقابل البضائع التي يستوردها.

في المقابل هناك تحاويل من قبل المُغتربين تصل إلى لبنان سنويًا وعلى الرغم من تراجعها، تبقى قيمتها المُطلقة عالية نسبة إلى الناتج المحلّي الإجمالي. هذه التحاويل تُساهم بشكل كبير في العملية الإستهلاكية وتدعمها القروض الإستهلاكية التي تقوم بها المصارف التجارية.

أضف إلى ذلك هناك تراجع في المالية العامة إن على صعيد العجز الذي إزداد أو على صعيد الإيرادات التي قلّت حكمًا بفعل الأوضاع الإقتصادية. كل هذا يتمّ بشكل متواصل (Continue) وفقًا للنظرية الإقتصادية.

الدراسات التي تتنبئ بإنهيار الليرة في الأعوام المُقبلة تستخدم مؤشر "ميزان المدفوعات" لتبني عليه إستنتاجاتها. وتُشيردراسة جمعية المصارف إلى أن العجز المُتسارع في ميزان المدفوعات يُشكل الضغط الأساسي على سعر صرف الليرة مُقابل الدولار الأميركي.

بالطبع هذا الأمر صحيح لكنه غير كافٍ للقول أن الليرة ستنهار والسبب يعود إلى التسارع المقبول في المؤشرات نقدية من كتل نقدية وإحتياط مصرف لبنان كما والمؤشرات المالية من عجز في الموازنة والميزان التجاري وغيرها...

النظرية الإقتصادية تنص على أنه في ظل الثبات النقدي، يتأثر سعر الصرف بالعوامل التالية: معدل التغيراتفي سعر الصرف الحقيقي للعملة؛  التغيرات في الاحتياط من العملات الأجنبية؛ عجز الميزانية؛  عجز الحساب الجاري؛نمو الائتمان المحلي؛ التغيرات في معدل البطالة؛ التغيرات في الانتاج الصناعي، والفارق في أسعار الفائدة.

وتحليل هذه الكميات يُظهر أن لا تغيير مُتقطّع فيها وبالتالي فإن الإستنتاج أن الليرة ستنهار مُبالغ فيه ولا أساس علمي له بل يجب البحث في دوافع أخرى مثل الضغط على الطبقة السياسية اللبنانية من أجل إنتخاب رئيس للجمهورية، الضغط على السلطات لرفع الفائدة، أوقطع الطريق على تداول إسم رياض سلامة لرئاسة الجمهورية عبر ضرب الثبات النقدي.

إن تاريخ الليرة اللبنانية وحنكة السلطات النقدية تُعتبر الضمانة الأساسية لليرة اللبنانية خصوصًا أن حاكم مصرف لبنان بهندساته المالية إستطاع رفع الإحتياط من العملات الأجنبية في وقت تتراجع فيه كل الإحتياطات في الدول الإقليمية وحتى الدولية.